للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صور انقطاع الحول]

قال المصنف رحمه الله: [وإن نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول].

لو كان عندك نصاب من إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، وهذا النصاب في أثناء حولان الحول وقبل تمامه غيرّته أو بدلته أو أنفقت منه فنقص، فإن هذه مسألة يُحتاج إلى بحثها.

ما مناسبة هذه المسألة لما مضى؟ -حتى نعرف ترتيب العلماء للأفكار- الأصل في هذه المسائل التي نبحثها أنه تجب عليك الزكاة، وأسقطتها لحقوق الله عز وجل، فكأنه يبحث متى تجب وتسقط، فأنت في قاعدة وجوب الزكاة عليك وسقوطها لسبب؛ مثل ما ذكرنا؛ لديون أو حقوق، ففي حكم ذلك لو أن العوز والنقص اعتراك بحكم الشرع، فعندك نصاب وقبل تمام الحول نقص هذا النصاب، فلو فرضنا كانت عندك أربعون شاةً، وكان بداية ملكك لها في الأول من شهر المحرم، فأنت تستقبل بها حولاً كاملاً، جئت في ذي الحجة قبل تمام ذي الحجة ودخولك في المحرم حتى تجب عليك الزكاة ماتت من هذه الأربعين شاة، أو ذبحت لضيف منها شاة، أو بعت منها شاة أو شاتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ نقصت عن النصاب، فتستقبل الحول من جديد، وإذا ملكت شاة أخرى فإنك تنتظر إلى أن يتم النصاب من جديد، ولو قبل حَوَلان الحول بيوم واحد.

أي: في يوم تسعة وعشرين من ذي الحجة جاءك ضيف ونزل بك وذبحت له الشاة، فحينئذٍ يعتبر هذا المال قد خرج عن حكم الزكاة، ولا تجب عليك فيه الزكاة وتستقبل حولاً جديداً ولو بعد عشرين سنة، فإذا ملكت شاة أخرى فأصبحت هذه الشياه أربعين شاة؛ تبتدئ الملكية وتستقبل حولاً جديداً بالملكية، وحينئذٍ لا إشكال، هذه حالة، أن ينقص المال عن الزكاة، لكن يشترط في هذا النقص ألا يكون حيلة على الشرع، والحيلة على الشرع: الفرار من الزكاة ومن حق السائل والمحروم الذي أوجبه الله عليك في مالك زكاة له، فلو أن إنساناً عنده -مثلاً- مائة وإحدى وعشرون شاةً، الواجب عليه شاتان، وقبل أن يأتيه المصدِّق بيوم احتال في إعطاء هذه الشاة لشخص، فحينئذٍ أعطى شخصاً مثلاً شاة صغيرة السن كالجفرة مثلاً، فهذا من الحيلة بدل أن يدفع للمتصدق شاتين بالسن المعتبرة وهو الثني من المعز والجذع من الضأن، فإن كانت ضأناً فلا إشكال، وإن كانت من الماعز فماعز، لكنه قال: بدلاً أن أعطي شاتين من الثني من الماعز، فإنني آخذ هذه الجفرة وأهديها لجاري، فأهداها لجاره قبل مجيء المصدِّق، فهذه حيلة لا تسقط حق الله عز وجل في ماله، ويجب عليه أن يؤدي شاتين ولو كان الغنم دون النصاب المعتبر في الشرع، ولو أعطى ثلاث جفرات -مثلاً- فانتقص عن قدر الشاتين وجبت عليه شاتان، لماذا؟ لأنه احتال على الشرع، فهو يعامل بنقيض قصده، كمن طلّق امرأته وهو في مرض الموت ظلماً لها حتى يحرمها من حق الله، فهذا ظالم للمساكين قاصد حرمانهم من حق الله، كيف تثبت عليه؟ تقول: الأصل وجوب الشاتين عليه، ولكنه فرّ عن هذا الأصل بغير عذر شرعي، فكونه أعطى أو لم يعط عندنا على حد سواء؛ لأن إعطاءه افتيات على الشرع وظلم للناس، ولا يمكن للشرع أن يأذن بهذا الظلم، لأنك لو قلت: سقطت عنه الزكاة فقد أذنت بالظلم، وأجزت له أن يضيع حق الفقراء، وحينئذٍ خالفت مقصود الشرع، ولذلك يقولون: يجب عليه أن يؤدي الشاتين، ولو احتال بهذه الحيلة فوجودها وعدمها على حد سواء، فيعامل بنقيض قصده.

فمن طلّق امرأته في مرض الموت، فإن هذا التطليق لا يؤثر، وتكون وارثة له؛ لأنه قصد حرمانها من حقها.

لكن ما الدليل على أن الشرع يعامل المحتال بنقيض قصده؟

الجواب

لو أن إنساناً رأى أباه يملك مالاً كثيراً يقدر بالملايين مثلاً، فحبه للدنيا أغراه أن يقتل أباه، بحيث ينال ما عند أبيه من التركة والمال أو كان ابناً له، عنده مثلاً أموال كثيرة، فأقدم الأب على قتل ابنه، فإن الأب إذا قتل ابناً لا يقتل به؛ بشبهة الأدب، وهذه مسألة ستأتي -إن شاء الله- في كتاب القصاص، حيث نعلم أنه يمتنع قتل الوالد بابنه، فحينئذٍ إذا قتله وهو يريد الميراث منه، فإن الشرع لا يورث القاتل كما هو نص السنة: (لا يرث القاتل المقتول)، فحينئذٍ عومل بنقيض قصده، إذ لو فتح للناس أن القاتل يرث، فإن الإنسان يقدم على قتل قريبه وهو يعلم أن ورثته لا يقتلونه، فإن الابن قد يقتل أباه، وهو يعلم أن بقية إخوانه سيتنازلون؛ لأنهم لا يرضون أن يفجعوا بأبيهم وأخيهم، فسيتنازلون عن القصاص، فإذا تنازلوا عن القصاص فإنه سيرث، ولذلك سدّ الشرع الذرائع المفضية إلى سفك الدماء والوصول إلى الأموال بهذه الحيل، ونهى عن توريث القاتل ممن قتل، وبناءً على ذلك فإنه لا يرث القاتل المقتول، وذلك معاملة له بنقيض القصد، قال العلماء: ففهم من هذا أن من قصد قصداً محرماً، فإنه يعامل بنقيض قصده، ولذلك قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصده لا مخالفاً له.

فإذا كان قد أعطاه الله مائة وإحدى وعشرين شاةً ويسرّها له، فقصد الشارع أن يعطي المسكين حقه من الشاتين، فإذا جاء يخالف قصد الشارع بنية منكرة، وجحود لنعمة الله عليه، وإضرار بالفقراء والضعفاء، عومل بنقيض قصده، فأوجبنا عليه الشاتين، مع أن ماله في الصورة ليس بمال تجب فيه الشاتان وإنما هو مال تجب فيه الشاة الواحدة.

هذا بالنسبة لما يتعلق بمسألة المعاملة بنقيض القصد.

قال المصنف رحمه الله: [أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول وإن أبدله بجنسه بنى على حوله].

قوله: (أبدله) من بدّل ماله من غنم أو بقر أو إبل، أو ذهب أو فضة أو غير ذلك من أموال الزكاة، فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يبدّله بجنسه مع اتفاق النوع، مثلاً عنده إبل فأبدلها بإبل، كأن يكون -مثلاً- عنده عِراض فأبدلها ببختية؛ لأن الإبل العِراض هي التي لها سنام واحد، والبختية هي التي لها سنامان، فأبدل الإبل بالإبل، حينئذٍ لا إشكال؛ لأن الجنس واحد فيبقى الحكم واحداً، فكأن المال لم يختلف.

الحالة الثانية: أن يبدله بغير جنسه، كأن يكون عنده ذهب وفضة، فاشترى بهما -مثلاً- عقاراً لكي يتاجر به، فحينئذٍ نقول: يستأنف الحول من شراء هذا العقار؛ لأنه خرج عن كونه ذهباً وفضة إلى كونه عقاراً، وخرج عن زكاة الأثمان إلى زكاة عروض التجارة، فحينئذٍ يستأنف الحول من جديد، لكن بشرط: ألا يكون قاصداً الحيلة على الزكاة، مثلما ذكرنا؛ فإنْ قصد الاحتيال على الزكاة؛ كإنسان يكون عنده مليون، فاشترى بها بيتاً قبل تمام الحول حتى يفر من زكاتها ثم باع هذا البيت -مثلاً- واشترى به بيتاً وهو واثق أن البيت سيأتي بقيمته ولا يتغير الحال ولا يقصد الربح ولا النماء ثم يبيعه بنفس القيمة، أو يشتريه وهو يعرف أنه سيخسر، ولكنه يقارن بين خسارته بهذا الشراء وخسارته في الزكاة، فيرى أن خسارته بالزكاة أعظم من خسارته بالشراء، فيشتريه ويبيعه بعد يوم أو يومين، فحينئذٍ نقول: هذا الشراء لاغٍ، وهذا التبديل لاغٍ، وعليه أن يبقى على الحول الأصلي، وذلك معاملة له بنقيض قصده.

إذاً لا بد للفقيه والمفتي أن ينظر إلى قصده، وأن يعلم ما يريد من هذا التبديل، فإن كان تبديله بريئاً ليس خروجاً من الزكاة؛ فإنه حينئذٍ يؤثر إذا كان من غير جنسه، وإن كان من جنسه فإن المال مال واحد وتجب عليه الزكاة.

وقوله: (بنى على حوله) يعني على حول الأصل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>