للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفطر بعذر المرض والسفر]

فيقول المصنف رحمه الله: [ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر].

ويسن الفطر لمريض؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤] فأمرنا الله عز وجل أن نعدل في حال السفر والمرض إلى الفطر، لكن هل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل التخيير؟ للعلماء قولان: قال جمهور العلماء: من كان مريضاً أو على سفر إن شاء أفطر وإن شاء صام، فهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة.

وقال بعض العلماء: المسافر لا يصح منه أن يصوم، ولو صام في السفر بطل صيامه ويجب عليه القضاء؛ لأن الله يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤] أي: أنه يجب عليه أن يفطر، ويكون صومه في عدة من أيام أخر، وهذا مذهب الظاهرية.

والصحيح: مذهب الجمهور؛ وذلك لأن السنة فسرت القرآن وبينت المراد منه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه مسافراً، قال أنس: (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).

وفي الصحيح: أن عمرو بن حمزة -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أطيق الصوم في السفر.

فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فخيره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزمه عليه الفطر؛ فدل على أن الإنسان مخير.

لكن إذا حصل الحرج والمشقة للإنسان في السفر فإنه يعدل إلى الفطر، وقد يجب عليه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام حتى بلغ كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وكراع الغميم هو كراع البحر، أقرب إلى جهة عسفان، المسافة ما بين المدينة وعسفان تقرب من سبع مراحل أو ثمان مراحل، والثمان المراحل: قرابة ثمانية أيام، وكلها كان يصومها عليه الصلاة والسلام، فاشتد الصوم على المسافرين من أصحابه فأفطر عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن أقواماً لا يزالون صائمين، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك العصاة أولئك العصاة) وهذا لأن اليوم كان شديد الحر، عظيم الضرر على المسافرين؛ فكان المنبغي عليهم أن يأخذوا برخصة الله عز وجل عليهم، فصار تكلفهم الصيام فيه حرج ومشقة على النفس.

ومن هنا قال العلماء: نفرق في المسافر؛ فإذا كان السفر يحرجه ويتعبه ويشق عليه أن يصوم فيه؛ فإنه يعدل إلى الفطر، وقال بعضهم بالوجوب كما ذكرنا، وأما إذا كان يجد المشقة ولا تصل به إلى الحرج فهو مخير بين أن يفطر وبين ألا يفطر.

أما الحالة الثالثة: وهي أن يسافر وهو مرتاح -كما هو الحال في وسائل السفر الموجودة اليوم- فلا يجد عناءً ولا مشقة، فهل يجوز له أن يفطر؟

الجواب

نعم، يجوز له أن يفطر؛ لأن الشرع علق العلة بالغالب، والقاعدة في الأصول في مثل هذه الرخص أنه لا يلتفت فيها إلى نادر الصور؛ لأن نادر الصور أن المسافر يرتاح، والواقع أن المسافر له عناءان وعليه مشقتان: مشقة ظاهرة، ومشقة باطنه.

أما المشقة الظاهرة: فهي التعب في التحمل والنزول والغربة.

وأما المشقة الباطنة: فهي مشقة التعب النفسي في بعده عن أهله، وتغربه عن وطنه، وإقدامه على المكان الموحش والأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا جليس، فهذا يرهق النفس ويتعبها وإن كان في الظاهر مرتاحاً مستجماً، فالشرع علق الرخصة بوجود السفر.

فنحن نقول: من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر، ولو كان في حالة من الراحة والاستجمام؛ لأن الله عز وجل جعل للمسافر أن يفطر بغض النظر عن كونه مرتاحاً أو غير مرتاح، ولا نفرق بين المرتاح وغيره؛ لأن التفريق بين المرتاح وغيره مبني على الاجتهاد والنظر، والقول باعتبار الظاهر من النص أولى وأحرى.

ولذلك من الخطأ ما يقع فيه بعض الناس من الإنكار على المسافر المرتاح أنه يفطر، وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر ولم يفرق بين مسافر وآخر، ولذلك لا يجوز لأحد أن ينكر على مسافر إذا أفطر ولو كان في أقصى راحة واستجمام؛ لأن الله عز وجل أحل له ذلك، فلا نلزمه بما لم يلزمه الله عز وجل به، ونقول: هو بالخيار، إن شاء أفطر وإن شاء صام، والأفضل له إذا كان في سفر وكان مرتاحاً أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر؛ ولأن ذلك يبرئ ذمته، وإبراء الذمة أولى من شغلها، فكونه يبرئ ذمته بالعاجل أفضل؛ ولأنه لا يضمن أن يبقى، ولذلك كونه يخلي نفسه من المسئولية والتبعة فهو أفضل له وأولى وأحرى، فعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يصوم ولا يفطر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>