للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الترجيح بتقديم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم على أفعاله]

السؤال

هل يعد من الوجوه المرجحة حديث (لا ينكح المحرم) على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحديث الأول قول وحديث ابن عباس حكاية فعل، فنقول: القول مقدم على الفعل؟

الجواب

نعم هذا من المرجحات، توضيح ذلك: أنه قد يشكل على بعض طلاب العلم كيف نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله، وهذا أمر يرجع إلى مسألة مهمة عند العلماء، إذا جاء النص بقول أو جاء النص بفعل فالأصل أننا مطالبون بالائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين قوله وفعله؛ لأن الله قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١]، والأسوة: أن نأتسي ونقتدي به صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله، فحينئذٍ لا فرق بين القول والفعل من جهة أن الله أمرنا وكلفنا أن نأتسي به عليه الصلاة والسلام، لكن الإشكال حينما يأتيك قول يبيح، وفعل يحرم، أو يأتيك القول يحرم والفعل يبيح، فإنه لا بد وأن تنظر؛ لأن القول والفعل صدرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال وهو الذي فعل.

فحينئذٍ إذا جئت تنظر إلى أقواله حينما يخاطب الأمة ويقول: أيها الناس، ويقول: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) يخاطب الأمة، فلا تشك في أن هذا عام لجميع الأمة.

فأنت ترى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إشكال فيه -هذا من جهة أحاديث الأقوال؛ لأنها خطاب وتشريع للأمة، لكن إذا جئت إلى أفعاله عليه الصلاة والسلام وجدت أن الله عز وجل قد خصه بأفعال، حتى في باب النكاح الذي اختلف فيه فقد أجاز الله له أن ينكح تسعاً من النسوة، ولم يجز لأمته أن ينكح الواحد فوق الأربع، فتبين أن هناك خصوصيات في أفعاله عليه الصلاة والسلام.

فأنت تنظر إذا جاءك النصان، وهذا الذي يسميه العلماء: باب التعارض، يأتيك نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من أقواله التي لا تشك أنها تشريع للأمة، والثاني من أفعاله التي يدخلها احتمال التخصيص، فحينئذٍ تترجح كفة القول، وليس المراد أن نسقط أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن البعض، إنما المراد أنك أمام نصين لو جئت تتعبد الله بهما معاً لما أمكن، وإذا أردت أن تتركهما لما أمكن أيضاً، فأنت بين هذه الخيارات الثلاثة: إما أن تقول: أعمل النصين، وهذا لا يمكن.

وإما أن تقول: أترك النصين، وهذا -والعياذ بالله- لا يجوز؛ لأننا مأمورون باتباعه عليه الصلاة والسلام، ولم يرد ما يستثني هذين النصين.

وإما أن تقول: أعمل بأحدهما وأترك الآخر، وإذا تعارض النصان فلا شك ولا شبهة أن الحكم في واحد منهما، لكن ابتلاء واختباراً من الله لعباده، وحتى ترتفع درجة العلماء فيختلفون ويتناقشون ويناظرون وتخرج الفوائد من هذه النقاشات والمناظرات، فيجتهد العالم الفقيه ويظهر فضل الله على العلماء ومزية ما خصهم به من العلم، فحينئذٍ يظهر الترجيح.

فتقول: حديث القول خاطب به الأمة، وحديث الفعل احتمل الخصوصية به عليه الصلاة والسلام، فكأنني أرى أن النصين ليسا بدرجة واحدة، مع أن حديث الفعل جاء ما يعارضه، أي: أن الحديث الذي دل على الجواز عارضه الحديث الذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً وإنما كان حلالاً، فإذاً كأنك لا ترى أن الأحاديث استوت كفتها حتى تقول: هي متعارضة، فتقدم أحاديث الأقوال على أحاديث الأفعال لهذه القاعدة.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط)، فهذا نص قولي واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب به الأمة: ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستقبال ولا بين الاستدبار، ولم يفرق أيضاً بين البنيان وغير البنيان، قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط).

وجاء في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة).

فحينئذٍ تقول: عندي قول يخاطبني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني لا أستقبل ولا أستدبر، ولا يفرق هذا القول بين صحراء ولا بنيان، فأنا أبقى على هذا القول الذي خاطبني فيه، وأما فعله عليه الصلاة والسلام فيحتمل أن الله خصه بهذا، ويقوي هذا أنه لو كان تشريعاً للأمة لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء، ويطلع عليه ابن عمر فجأة بدون أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام وبدون أن يشعر، فهل يعقل أن الشرع يفصل في التفريق بين البنيان والصحراء ولا يُعْلم هذا حتى يأتي ابن عمر وهو حدث صغير يرقى على البنيان؟! فحينئذٍ تقوى عندك دلالة القول، فتقول: أنا أبقى على دلالة القول، وما ورد من فعله احتمل خصوصيته به عليه الصلاة والسلام، مع احتمال أن يكون سابقاً للنهي، فلا يخرجني عن دلالة القول، فحينئذٍ أبقى على دلالة القول؛ لأنها أقوى وأرجح.

فهذا هو مسلك علماء الأصول حينما يقولون: إذا تعارض القول والفعل فإننا نقدم القول على الفعل؛ لأن القول خاطب به الأمة، والفعل يحتمل أن يكون من خصوصياته صلوات الله وسلامه عليه.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>