للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم)]

السؤال

كيف نفرق بين المسنونات والواجبات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، علماً بأن الكل مندرج تحت قوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم)، وضحوا ذلك أثابكم الله؟

الجواب

المنسك يكون بالأفعال التي فعلها عليه الصلاة والسلام، هذا في الأصل، ولذلك سميت: المناسك يقال: عرفة ومنى والصفا والمروة، هذه من مناسك الحج، تطلق المناسك على الأماكن، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:٦٧]، وتطلق على الأفعال ومنها: الذبح، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:١٦٢].

وقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) وقع هذا على سبيل العموم، فهو يشمل الأقوال والأفعال من حيث الأصل، لكن المعتبر عند الجمهور رحمة الله عليهم، فيما ذكروه من الأركان والواجبات، إنما هو في الأفعال وهي الغالبة، فقد وقع منه عليه الصلاة والسلام بيان لما أجمل القرآن في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] من جهة الأفعال، وأما بالنسبة للأقوال: فتأتي أدلة تخصص أو تدل على أن هذا القول سنة وليس بواجب ولا لازم، أما كيفية التفريق فهذا يرجع إلى ضوابط قررها العلماء في علم الأصول، سنذكرها إن شاء الله في باب أركان الحج وواجباته، ما هو الركن؟ وما هو الواجب؟ وما هو السنة؟ ونبين لماذا صرفنا هذا الفعل من كونه لازماً إلى كونه مسنوناً، ودليل الصرف؟ وهذا إن شاء الله سيأتي بيانه في موضعه.

والله تعالى أعلم.

وأظن السائل فيما يظهر لي والله أعلم أن مراده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني مناسككم)، هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله في الأصل واجب ولازم، فلماذا نقول: إن فِعْلُه هذا في الحج سنة، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم)؟! والواقع أن العلماء رحمة الله عليهم بينوا هذا، وأظن أن هذا هو الإشكال عنده فيما يظهر، وهو إشكال وارد من هذا الوجه، يعني: حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله وما وقع منه عليه الصلاة والسلام يعتبر واجباً، لكن العلماء رحمة الله عليهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالمنسك: أداء الشعيرة؛ والسبب في ذلك: أن الحنيفية بدلها المشركون من أهل مكة وغيرهم في الجاهلية، فزادوا ونقصوا وحرفوا وأحدثوا وابتدعوا، فجاء فعله عليه الصلاة والسلام لبيان أصول الدين في العبادة ذاتها، وبيان ما أمر الله عز وجل ببيانه من توحيده سبحانه، وحدود وضوابط العبادة التي هي الحج، فقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) المراد به بيان الهدي، بغضِّ النظر عن كونه في الأصل واجباً أو غير واجب، لكن العلماء يستأنسون بقوله: (خذوا عني مناسككم) على الوجوب؛ لأن الحديث يقول: (خذوا عني) ولم يقل: افعلوا فعلي، وفرق بين: (خذوا عني)، وبين قوله: افعلوا ما فعلت؛ لأن خذوا عني المراد به التعلم، والتعلم يشمل ما هو واجب وما ليس بواجب، فوقع بياناً للحنيفية وليس المراد به تعين الفعل منه عليه الصلاة والسلام، وأظن الأمر واضحاً؛ لأن اللفظ: (خذوا عني مناسككم) يدل على التعلم والتلقي، ولذلك قال: (فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، فكأن المراد به جهة التعلم للشعائر، وهذا أعم من أن يكون دليلاً على الأركان، أو دليلاً على الواجب، أو دليلاً على اللزوم، يشكل على هذا لو قلنا: إن المراد به التعليم، كيف يحتج العلماء به على سنته وهديه في الحج؟ نقول: نعم؛ لأنه لما ذكر هذا الشيء بقوله: (خذوا عني مناسككم) تنبيهاً على مشروعية هذا الفعل وإقراره للحنيفية وما فيه من الهدي، وليس المراد به مسألة الإلزام وكونه ركناً أو كونه واجباً، بل هو أعم من ذلك، وعلى هذا الذي يظهر أنه لا إشكال في الحديث.

وخلاصة الجواب أن يقال: إن لفظ الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) لا يساعد على تعيّن أو وجوب أو لزوم كل ما كان في حجة الوداع، بل إن الإجماع منعقد على أنه ليس كل ما وقع في حجة الوادع واجباً، إذاً لو قلت بذلك للزم كل من حج أن تكون أفعاله وأقواله كاملة مثلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لو وقف على الصفا ولم يدع بطل وقوفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الصفا، وحتى لو وقف ودعا ولم يدع مثل دعائه الوارد المتقيد لم يصح أيضاً؛ لأنك ترى أنه لازم كالركن وكالواجب، ولا يقول أحد بهذا، وحينئذٍ يكون قد حمل الحديث في المعنى ما لا يحتمل وفوق ما يدل عليه، ولا شك أن المراد به الأخذ بمعنى التلقي عنه عليه الصلاة والسلام، وقد علل هذا بقوله: (فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) أي: تعلموا هديي وسنتي، التي هي أعم من كون هذا الشي واجباً أو ليس بواجب، وليس المراد به الإلزام والدلالة على الركنية والوجوب كما لا يخفى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>