للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عدم مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره]

[وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه] قوله: (وتستحب) الاستحباب حكم شرعي، وقولهم: (تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاستحباب لم يرد دليل عليه، بل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، فدل على أنه لا يجوز شد الرحال في السفر لزيارة القبور، سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر صاحبيه أو قبر غيرهم من الصالحين أو أي قبر، فلا يجوز للمسلم أن يشد الرحال لزيارة القبور، ولا للدعاء عندها، ولا للذبح ولا للنذر، ومن نذر شيئاً من ذلك فلا يلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فدل على أن النذر إذا لم يكن على الصفة الشرعية أنه لا يلزم الوفاء به، وعلى هذا فإن قوله: (يستحب شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه) خلاف السنة، وخلاف الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تشد الرحال)، وإنما المسنون أن يسافر وينوي من أجل زيارة المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فينوي زيارة المسجد.

وقد فضل الله مسجد نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه على غيره من المساجد، عدا المسجد الحرام، فينوي زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وينوي الصلاة في المسجد ولا ينوي زيارة القبر، وإنما ينوي هذه الزيارة الشرعية ويشد الرحال من أجل المسجد، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رغب في ذلك بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وإذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي له إذا دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يبدأ بأي شيء، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح في قصة المسيء صلاته: (فإن المسيء صلاته لما دخل المسجد جاء وركع ركعتين ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ارجع فصلِّ) قال العلماء: في هذا دليل على أن من دخل المسجد ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بتحية المسجد؛ لأن الرجل ابتدأ بتحية المسجد ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السنة أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من التحية مضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام الشرعي، ثم يسلم على أبي بكر، ثم يسلم على عمر وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسأل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام الوسيلة، ثم بعد ذلك ينصرف، ولا يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستغاثة والاستجارة والدعاء كلها أمور لا يجوز صرفها لغير الله جل جلاله، فإن الله لا يأذن لعبده أن يدعو سواه، أو يستغيث بأحد عداه، أو يستجير به، فإنه لا يملك النفع أو الضر إلا الله جل جلاله، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله! اشفني، أو يا رسول الله! عافني، أو يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! مدد، فإنه لا يشفي ولا يكفي ولا يجير ولا يدفع السوء إلا الله، ولا يقول: يا رسول الله! حقق لي سؤلي، أو اشفع لي عند ربي، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالشرك في مكان آخر، فضلاً عن يأتي الإنسان لزيارته والسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ويشرك عند قبره، فالحرمة أعظم، وعلى من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراعي الأدب، فلا يرفع صوته عند قبره وإنما يغض من صوته ويسلم السلام الشرعي، ولا يتكلف بطول القيام وهو يمطط العبارات وينمق الكلمات، أو يغلو في وصفه عليه الصلاة والسلام، وإنما يسلم سلاماً شرعياً كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيونه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الوارد، وهذه هي الزيارة الشرعية.

وأما أن يقف الإنسان الوقفات الطويلة، وهو يمطط العبارات ويترنم بالكلمات، ولربما تكون -والعياذ بالله- مشتملة على صرف حق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول: يا مغيث الملهوفين! ويا ملاذ الهاربين! ويا أمان الخائفين! هذا كله ليس إلا لله جل جلاله، فلا أمان إلا من الله، فهو الذي يؤمِّن الخائف، وهو الملاذ للهارب والمعين للمستعين، والغوث للمستغيث، والمجير للمستجير: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢] سبحانه لا إله إلا هو، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الأصل وهو: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يفرده بالعبادة، وأن يصرف حق الله لله خالصاً، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يستهين بمثل هذه الأمور، فبين الإسلام والشرك كلمة واحدة، فلو قال: يا رسول الله! اشفني، فإنه شرك أكبر -نسأل الله السلامة والعافية-، أو قال: أغثني، أو أدركني، أو المدد؛ كل ذلك من الشرك الأكبر، الدعاء والاستغاثة والاستجارة بغير الله كائناً ما كان ذلك المغاث به، سواءً كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، من الشرك الأكبر، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:٥٧]، فالله عز وجل ذكر عن هؤلاء الصالحين الذين يُعْبَدُون من دون الله، قيل: إنها نزلت في عيسى بن مريم حين عبدته النصارى واتخذته إلهاً من دون الله، فقال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:٥٧]، فهؤلاء الصالحون يدعون الله ويلتجئون إلى الله، فحري بالمسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن لله حقاً ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ولا يجوز صرف حق الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما بعث ولا أرسل إلا من أجل هذا الأصل، وهو: إفراد الله بالعبادة، وصرف ما لله خالصاً لوجهه الكريم، والله يخاطب رسوله عليه الصلاة والسلام ويقول له: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:٦٥ - ٦٦]، أي: كن من الموحدين المخلصين له سبحانه وتعالى.

فينبغي على المسلم أن يفرد الله بالعبادة، وأن يصرف حق الله خالصاً لوجهه، مثل: الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من الحقوق التي لا ينبغي صرفها إلا لله سبحانه وتعالى لا شريك له، وخاصة إذا كان المسلم قد جاء إلى الحج، فبينه وبين الله عهد وهو يقول: لبيك لا شريك لك لبيك، فمعنى ذلك: أنه سيفرد الله بالعبادة ولا يصرف حق الله عز وجل لغيره كائناً ما كان ذلك الغير.

<<  <  ج:
ص:  >  >>