للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[امتهان أهل الذمة عند أخذ الجزية ومقاصده الشرعية]

قال رحمه الله: [ويُمْتَهنون عند أخذها، ويُطال وقوفُهم، وتُجَرُّ أيديهم] (ويُمْتَهنون عند أخذها) المهانة ضد الكرامة، والله تعالى أهان أهل الكفر، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:١٨]، وهذا نصٌّ في كتاب الله عز وجل، خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: من أهانه الله فلا تكرموه، ولذلك حرم إكرام الكفار وتبجيلهم وتعظيمهم، على الأصول المقررة في التعامل مع الكفار؛ لأن الله أهانهم بالكفر، وهذه الإهانة موضوعة موضعها، فلا كرامة للإنسان إلا بالإسلام.

فقوله: (يُمْتَهنون عند أخذها) لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩]، وينبغي أن يُعلم أن الإسلام دين الله عز وجل الذي ينبغي أن تُعْلَى كلمتُه، ويُرْفَع منارُه، ويُعَزَّ شأنُه، ولا يجوز أن يُقْرَن به غيرُه، كائناً ما كان ذلك الدين، بل كل ما عداه دونه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه).

فمن مقاصد الإسلام أنه إذا قُبِلت الجزية من أهل الكتاب، فينبغي أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا ينبغي أن يسوَّوا بالمسلمين ولا أن يفضَّلوا عليهم، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله.

فقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] هذا نص، وهذا النص ورد في كتاب الله مطلقاً كما يقول الفقهاء والعلماء، وينبغي على طالب العلم أن يتأمل ذلك، فإن الله عز وجل قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] فجملة: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) حالية أي: والحال أنهم في صغار، فنصَّ كتابُ الله على أن إعطاءهم يكون بهيئة تدل على ذلهم وصغارهم، فإذا كان صغارهم بإطالة الوقوف، فهو من شرع الله؛ لأن هذا منصوص عليه على وجه العموم، وترك الله الخيار لولي الأمر أن يمتهنهم بالصيغة التي يراها؛ لكن بطريقة لا تفضي إلى استباحة دمائهم ولا أعراضهم، فإذا أوقفناهم عند إعطاء الجزية، أو جاء يعطي الجزية فتشاغلت عنه، فهذا له مقاصد، ذكرها العلماء رحمهم الله وأشاروا إليها، وهو أنه إذا جاء يدفع المال لك، فإنك تشعره أنه لا يشتريك بهذا المال، وأنك لا تريد هذا المال منه، وأنه أعز من المال الذي يبذله، فلما جاء نص القرآن: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] دل على أنه ينبغي أن تكون الحالة والهيئة، دالة أن هذا ليس لطمع أو رغبة في ماله، حتى يعطي المال كما يعطيه المستأجر لمن يؤجر له؛ لأنه لو لم يكن بذلةٍ وصغار لصار كأنه يشتري المسلم، وكأنه يتعاقد مع المسلم على إجارة، أي: أنك تحميني وتصونني بهذا المال، لكن الله قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩]، أي: الحال أنهم في صغار وذلة، ثم ترك الله الصغار بالخيار، ولذلك يقول العلماء: إن هذا من المطلق المقصود، أي: أنه ترك إلى اجتهاد الحاكم، فعندما نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون في كتبهم على ألوان من الصغار لهم، فإن هذا كله راجع إلى الاجتهاد والتقدير، وليس لأحد أن يتعقَّد في ذلك، كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين فيقولون: إن هذا من الاجتهادات القديمة أو كذا، فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا له أصل في كتاب الله عز وجل، وله مقصد شرعي، وكان العلماء في القديم يقصدون من هذا تحقيق النص المطلق في قوله سبحانه وتعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩].

فقال رحمه الله: (يُمْتَهنون عند أخذها) أي: لا تؤخذ منهم بكرامة.

يقول بعض أهل العلم: ومن الامتهان عند أخذها: أنه إذا جاء يدفعها إلى المسلم فلا ترتفع يده، أي: لا يعطيها بيدٍ عالية؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وإنما يعطيها بطريقة لا تُشْعِر بالكرامة، ومن هنا نص المصنف على كلمة: (وتُجَرُّ أيديهم) فما معنى (تُجَرُّ أيديهم)؟ فَهِم البعض أن معنى تُجَرَّ أيديهم أي: حتى تُخْلَع.

ولا يقول أحد من أهل العلم أنها تُخْلَع أبداً.

وإنما (تُجَرُّ أيديهم) لها معنى ومغزى دقيق، وهو أنك إذا جاء الكافر ليعطي الجزية بيده، فأخذت يده أثناء الإعطاء أشعرته بأنه ملك لك، وأن هذا الذي في يده مستحق تحت القهر والذلة، وهذا نوع من الإشعار بأنه لا منة له على المسلمين، وليس المراد بـ (تُجَرُّ أيديهم) أنهم يجرون كما تُجَر الدواب، لا.

بل تُجَرُّ أيديهم -كما ذكر العلماء- لمعنى مقصود، وهو أنه قد يأتي يستفضل على المسلمين بإعطاء المال، فإذا جاء يرفع يده أرخيت يدُه، ثم إذا جاء يعطيها تمسك يده، كأنك تقول له: مالُك وما في يدك ملك لي، ثم لا يأخذها مباشرة، وإنما يمسكها بما يشعر بالذلة والصغار حين تؤخذ.

إذاً: معنى: (تُجَرُّ أيديهم)، أي: أنهم يُشْعَرون بأنهم بهذا لا فضل لهم على الإسلام والمسلمين، وإنما المنة والفضل لله ولرسوله وللمؤمنين.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>