للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عدم التزام الذمي بالجزية أو أحكام الإسلام ينقض عهده]

يقول المصنف رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: أبى أن يدفع الجزية، فهناك أمران لا بد من وجودهما في عقد الذمة، وهما: - دفع الجزية.

- والالتزام بأحكام الإسلام.

فإذا امتنع الذمي من هذين الأمرين لم يصح أن تُعْقَد معه الذمة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لأن عقد الذمة يقوم على هذين الأساسين: أولهما: دفع الجزية، وهذا بنص كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والثاني: الالتزام بأحكام الإسلام، فلا يأتي بما يعارض الإسلام أو يتسبب في الأذية والإضرار بالمسلمين، من حيث الأصل والجملة، فبيَّن رحمه الله في هذا الفصل الأمور العظيمة التي إذا فعلها الذمي انتقض بها عهده، وصار حكمه حكم الأصل.

فقال رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: وَقَع العقد بيننا وبين أهل الذمة، ثم فوجئنا بهم أنهم قالوا: لا نريد أن ندفع الجزية، فإذا قالوا ذلك فقد انتقض عهدهم؛ لأن بيننا وبينهم التزامات، فهم ملزمون بدفع الجزية، والعقد أصلاً قائم على الجزية، فإذا منعوها فحينئذ ينتقض ما بيننا وبينهم من عقد الذمة.

وإن أبى أحدهم وقال: لا أدفع الجزية، أو ماطل فيها على وجهٍ يريد به إضاعتها على المسلمين، يكون حكمه كذلك، فيطلبهم الحاكم، ثم يستوثق منهم، فإما أن يدفعوا، وإما أن يبقى في حل من ذمتهم.

(أو التزام أحكام الإسلام) إذا قال: أدفع الجزية؛ ولكني أقول ما أشاء، وأفعل ما أشاء، وليس لأحد أن يتعرض لي -ويقع هذا أحياناً حينما يؤخذ ويقال له: كيف تجهر بكتابك؟ فيقول: أنا أفعل ما أشاء- فحينئذ كأنه خرج عن الالتزام بحكم الإسلام، وكأنه نقض ما بينه وبين المسلمين من الالتزام بالإسلام، إذ من الالتزام بالإسلام أن يتقيد بالحرمات والضوابط، وألاَّ يخل بها.

وهذا يقع عند الشروط، فإن المسلمين إذا أرادوا أن يعقدوا بينهم وبين أهل الذمة عقداً، فقال أهل الذمة: نعقد ما بيننا وبينكم ونلتزم بحكم الإسلام؛ ولكن لا ندفع لكم الجزية، فلا يصح عقد الذمة، وهذا في قول جماهير العلماء، أنهم إذا قالوا: لا ندفع الجزية، فلا يجوز لأحد أن يعقد معهم الذمة.

أما حديث أم هانئ فهذا أمان خاص، فقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) هذا يسمى بالجوار، والجوار غير الذمة، فينبغي أن يفرق؛ لأن جوار أم هانئ لا عوض فيه ولا جزية، فلا يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على الأمان بدون عوض؛ لأننا نقول: هذا شيء وذاك شيء، فهناك الذمة وهناك العهد والأمان، وكل منهما له حكمه الخاص.

ولذلك العهد والأمان يبقى مقيداً إلى سماع القرآن، فإذا سمع القرآن فإنه يُبْلَغ إلى مأمنه إذا لم يسلم، أما بالنسبة للذمي إذا سمع القرآن فلا يلزم به، ولذلك قال الله تعالى في الأمان والعهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] فجعل الأمان مقيداً بالسماع، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:٦] أي: إذا أصر على كفره فليس له أمان عندنا، وإنما ينبغي أن يرد إلى مأمنه.

وأما بالنسبة للذمة فإنه يبقى، ولا بد أن يلتزم بالأمرين.

فإن قالوا: ندفع الجزية، ولكن نسميها: ضريبة، أو تسمى باسم آخر، فهذا لهم؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل ذلك مع المجوس حينما امتنعوا وقالوا: لا تسمِّها جزية، قال: (سموها ما شئتم)، ثم فرضها عليهم رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من باب المصلحة، وفيه بُعْد نظر منه رضي الله عنه، طلباً لما هو أعظم، ودفعاً لما هو أبلى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>