للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: ولا يصحُّ البيع مِمَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني].

(فصل) هذا الفصل مبنيٌ على ما تقدم من الأحكام المتعلقة بالشروط؛ والسبب في هذا: أن ما نهى عنه الشرع من البيوعات كأنه ينبه المتعاقدين أثناء تعاقدهما على الاحتراز والتوقي من أسباب أو من موجبات النهي، فصارت كأنها علامات وأمارات توجب اتقاء هذا النوع من البيوع، فهنا ارتبط الفصل بالشروط الماضية، إلا أن الأحكام التي تقدمت معنا في الفصل الماضي تتعلق بالشروط التي إذا توفرت حكمنا بصحة البيع، وإذا لم تتوفر أو سقط بعضها أو فات بعضها حكمنا بفساده، فكأن المنهيات أو البيوع المنهي عنها متعلقة بالشروط من جهة كون الشرع نهى عنها، إلا أنها تخالف الشروط من جهة كونها لا تستلزم الفساد، فقد يكون الشيء منهياً عنه ويأثم فاعله إلا أن العقد صحيح.

وعلى هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من البيوع التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة ينبغي أن يعلم أن ما أحلّ الله من البيوع أكثر مما حرمه سبحانه وتعالى؛ لأن الشريعة شريعة رحمة وشريعة تيسير، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، وقال سبحانه وتعالى -وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين تبارك رب العالمين-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥]، فجعل الله البيوع التي أباحها وأحلّها لعباده المؤمنين من الطيبات أكثر من التي حرم، ومن هنا يعتني المحدثون والفقهاء وأئمة الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة ببيان البيوع المنهي عنها، ويجعلون مباحثها ومسائلها وأبوابها مرتبة على مسائل الشروط وأبوابها.

والآن سيشرع المصنف في جملة من البيوعات المنهي عنها، وهذه البيوعات المنهي عنها تارةً يُنهى عنها من أجل الوقت والزمان، فيقول لك الشرع: لا تبعْ؛ لأن هذا الوقت ليس بوقت بيع، وتارةً يمنعك الشرع من البيع والشراء للمفاسد المترتبة على بيعك وشرائك لاشتماله على صورة توجب الضرر، وتارة ينهاك عن ذلك تعبداً منه سبحانه وتعالى لأمرٍ حرمه أو كونه ذريعة إلى ضرر أو مفسدة حرمها الشرع، فمثلاً في قوله رحمه الله: [ولا يصحُّ البيعُ ممَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني].

(لا يصح) هذا يدل على نفي صحة البيع، بمعنى: أن البيع لو وقع بعد الأذان الثاني من شخص تلزمه الجمعة فإنه يحكم بعدم صحته، وهذه المسألة مبنية على قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:٩ - ١٠]، هذه الآية الكريمة صدرها الله عز وجل بالنداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... )، قال العلماء: لأن الذي يمتثل أمر الله عز وجل ويستقيم على ذلك الشرع الذي شرعه سبحانه إنما هم المؤمنون الكاملون في إيمانهم، الذين إذا أمروا من الله اِئتمروا وإذا نهوا من الله انكفوا وانزجروا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) وهو نداء التشريف الذي يحرك في النفوس العزيمة على الامتثال والعمل بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال: (إِذَا نُودِيَ) أي: إذا ابتدأ النداء للصلاة من يوم الجمعة، فالتحريم يبتدئ من قول المؤذن (الله)، فإذا ابتدأ بلفظ الجلالة من النداء الثاني بقوله: (الله أكبر) حرم البيع وحرم الشراء، (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قوله سبحانه: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) تخصيص يدل على أن غيره لا يشاركه في هذا الحكم، ثم ليس كل يوم الجمعة وإنما فقط في هذا الظرف من ابتداء النداء الثاني: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وهي الصلاة المفروضة أعني: صلاة الجمعة فـ (أل) في الصلاة للعهد الذهني، أي: أنها الصلاة المعهودة المعروفة في يوم الجمعة وهي صلاة يوم الجمعة: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي: في يوم الجمعة أو أنها جزء أو تبعيض للظرف: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أمر بالمضي إلى الصلاة، ثم قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) (ذروا) بمعنى: اتركوا، وعلماء الأصول يقولون: إن من صيغ التحريم أن تأتي الآية بقوله: (ذر) بمعنى اترك، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:١٢٠] أي: اتركوه، وهذا يدل على تحريم ظاهر الإثم مثل القول الظاهر: كالسبّ والشتم، وباطنه مثل: الحسد ونحو ذلك، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه، ومن هنا قال العلماء: يحرم البيع، ويتعلق التحريم بالطرفين: يتعلق بالبائع فلا يجوز له أن يبيع، ويتعلق بالمشتري فلا يجوز له أن يأخذ ويشتري، وقوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) معناه: العقد، وهو صيغة البيع: بعت واشتريت.

وعلى هذا فلو قال له: بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرين، قال: قبلت.

فلما مدّ له العشرين وأراد الآخر أن يقبض أذن المؤذن، فإن العبرة بالصيغة، فلما وقعت الصيغة ووقع العقد قبل الأذان صحَّ؛ لأن قوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: عقد البيع، إذاً: إذا وقعت الصيغة التي هي الإيجاب والقبول قبل أن يبتدئ المؤذن بالأذان فقد أوجب البيع ولزمهما إمضاءه وإتمامه.

وقوله سبحانه وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) النداء في يوم الجمعة نداءان: أولاً: الأذان الذي هو الأصل في يوم الجمعة، والذي يقوم الخطيب ويخطب، وهذا النداء مجمع عليه، وقد ثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنه كان يؤذن بين يديه، وهو الذي يسميه العلماء: الأذان بين يدي الخطيب، وهو الذي عليه المعوّل وهو نداء الفريضة.

ثانياً: الأذان الذي هو من السنن المعمول بها؛ لأنها سنة خليفة راشد وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فإن هذا النداء وضعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولم ينكره أحد من السلف، ومضى على ذلك إجماع الأمة سلفاً وخلفاً على أن هذا الأذان سنة؛ والسبب في هذا: أن عثمان رضي الله عنه نظر إلى حاجة الناس؛ لأنهم كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قلّة، ثم لما كثر الناس أصبح يؤذن الأذان الثاني وهم في خِضم البيع والشراء؛ لأنهم يفاجئون بالأذان فجأة، فشرع أو أحدث هذا الأذان الذي هو الأذان الأول، ومضت السنة عليه، وهذه السنة لا يفرق العلماء فيها بين وجود السبب أو عدم وجوده، أي: لا نعرف أحداً من أهل العلم لا من السلف ولا من الخلف يقول: إنه إذا وجد سبب يشرع وإذا لم يوجد لم يشرع؛ لأنه مثل الرمل، كان له سبب فلما زال سببه بقي سنة إلى يوم القيامة، ولذلك هذه سنة راشدة باقية، ومما يدل على ذلك أن هذا الأذان كان يحكم به العلماء رحمهم الله ولا يفرقون بين القرى الصغيرة والقرى الكبيرة ولا يفرقون بين ما يحتاج فيه الأذان الثاني أو لا يحتاج، إنما قالوا: هذا سنة، ويتعبد لله سبحانه وتعالى به ويُعمل به؛ لأن سواد الأمة الأعظم مشى على هذا، ولا يستطيع إنسان أن يشذ عن جماعة المسلمين أو يغيّر شيئاً مضت عليه السنة، خاصة في الأمور التعبدية: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:١١٥]، فالإنسان إذا وجد سنة مضى عليها العمل لا يسعه إلا اتباع السلف والسير على منهجهم، فإن فصلوا فصلنا وإذا لم يفصلوا لا نفصل، فهو سنة باقية إلى قيام الساعة، كما أن الأذان الثاني باقٍ إلى قيام الساعة فإن هذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء سنة راشدة باقية.

على هذا: الأذان الأول لا يتعلق به حكم، ولا يمنع فيه من البيع؛ لأن الآية نزلت في الأذان الثاني ولم تنزل في الأذان الأول، ولأنها لما نزلت في الأذان الثاني كان الوقت الذي بين الأذان الأول والثاني يشرع فيه البيع بظاهر النص والقرآن، فلما أُحْدِث الأذان الأول أُحْدِث في وقت مأذون بالبيع فيه بنص الآية الكريمة، فبقي الحكم على ذلك أنه يجوز أن يقع البيع بين الأذان الأول وبين الأذان الثاني، إنما يحرم البيع بشرط، وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: (ممن تلزمه الجمعة).

(تلزمه) أي: تجب عليه، وعلى هذا كأنه في هذا الوقت مطالبٌ بما هو آكد وألزم، يقول العلماء: من الأسباب التي منع الشرع بها البيع: أن يكون وقت البيع مستحقاً لما هو أهم، ويمثلون له بالبيع بعد الأذان الثاني، وقالوا: لأن هذا الوقت مستحق لما هو أهم وهو صلاة الجمعة، فكأنه حينما أوجب البيع وقال له: بعتك وقال: اشتريت، هو في هذه اللحظة مطالبٌ أن ينصرف إلى الصلاة وذكر الله لا إلى البيع، فوقع بيعه وشراؤه على وجه عصى الله عز وجل فيه.

وقوله: (ممن تلزمه الجمعة) على هذا هناك صور يأثم فيها الطرفان، وصور لا يأثم فيها الطرفان، وصور يأثم فيها أحد الطرفين دون الآخر: فالصورة التي لا يأثم فيها الطرفان: كامرأة باعت لصبي، فإن الصبي لا تلزمه الجمعة والمرأة لا تلزمها الجمعة، أو امرأة باعت لامرأة فيصحّ البيع ولا إشكال في جوازه، فليس على النساء جمعة وليس عليهن جماعة، فلا يلزم الطرفين المضي إلى الجمعة، أو مسافر يبيع لمسافر، فإن المسافر لا تلزمه الجمعة.

إذاً الشرط: أن يكون الطرفان ملزمان بالجمعة، فإن تعلق الإلزام بأحدهما أثم ذلك الذي تعلق به الإلزام، وبالنسبة للطرف الثاني فإنه إذا باعه وهو يعلم أنه ممن تلزمه الجمعة يأثم؛ لأنه يعينه على الإثم والعدوان، كامرأة تبيع

<<  <  ج:
ص:  >  >>