للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تعريف الخيار وأنواعه وحكمة مشروعيته]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: قال رحمه الله: [باب الخيار].

يقول المصنف رحمه الله: (باب الخيار) الخيار مأخوذ من الخير.

يقال: استخار إذا طلب الخير وسأله من الله عز وجل فيما هو قادم أو يريد القدوم عليه من أمور دينه أو دنياه.

ومنه سميت الاستخارة استخارة؛ لأن المسلم يسأل الله عز وجل خير الأمرين من المضي أو عدم المضي.

وسمي الخيار خياراً؛ لأن هذا النوع يكون فيه المتعاقدان أو أحدهما له حق الفسخ خلال مدة معلومة، أو له حق الفسخ ورد البيع لسبب معين خلال مدة معلومة مثل خيار الشرط، كأن يقول: أنا أشتري منك هذا البيت ولي الخيار ثلاثة أيام، فله أن يرد خلال هذه المدة المعلومة.

وله أيضاً أن يرد لسبب معين كوجود عيب في الصفقة، وهذا يسمى خيار العيب.

وخيار الغبن إذا غبنه.

وخيار التدليس إذا دلّس عليه في السلعة.

وهذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بالمعاملات.

والعلماء رحمهم الله يذكرون الخيار في البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).

ومناسبة ذكر المصنف للخيار عقب الشروط: أن الشروط فيها خيار، فحينما أقول لك: اشتريت منك هذه الدار على أن يكون لها صكّ شرعي، فمعناه أن لي الخيار في الفسخ إذا لم يظهر لها صك.

أو: اشتريت منك هذه السيارة بعشرة آلاف على أن فيها صفة كذا وكذا، فمعناه أن لي الخيار إذا لم تظهر فيها الصفة، فكأن هناك صلة بين الخيار وبين الشروط.

ومباحث الخيار تنبني على مباحث الشروط، أو تتصل بمباحث الشروط.

فلذلك يعتني العلماء بذكر باب الخيار عقب باب الشروط.

والخيارات أنواع منها: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار التدليس، وخيار الغبن، وخيار العيب ... إلى آخر ذلك من الخيارات التي سنبينها إن شاء الله ونوضحها في مواضعها.

وقد شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، فإن المسلم إذا تبايع مع أخيه، أو تبايع مع الغير ربما ندم وأصابته الحسرة على هذه الصفقة التي أوجبها، فجعل الله عز وجل حداً معيناً يدفع فيه المسلم عن نفسه الضرر.

فأنت مثلاً لو كنت جالساً مع أخيك المسلم فقال لك: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف، ربما استعجلت وقلت له: وأنا اشتريت؛ لأنك ترى أن السلعة تستحق العشرة آلاف بل وأكثر من عشرة آلاف، فتتسرع في الإجابة؛ لكنك إذا أمعنت النظر وتدبرت وجدت أن دفعك للعشرة آلاف يجحف بحقوق واجبة عليك، ولربما يضر بأهلك ونفقة عيالك، ولربما لا تضمن دخلاً يعينك على سداد الأقساط إذا كان البيع مؤجلاً، فالمسلم بطبيعته بشر يعتريه ما يعتري البشر من التسرع في الأمور؛ فكأن الخيار يدفع هذا النوع من الضرر في حدود ضيقة: وهي أن يكون الإنسان مستعجلاً في بت البيع فأعطاه الشرع خيار المجلس.

فما دمت مع البائع في نفس المجلس الذي تم فيه البيع، وانعقدت فيه صفقة البيع فمن حقك أن تقول: رجعت، ومن حقك أن تقول: لا أريد، وهذا النوع شرعه الله عز وجل دفعاً للضرر عن البائع ودفعاً للضرر عن المشتري، فكل منهما يدفع عن نفسه الضرر؛ لأنه ربما قال لك رجل: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فإذا بك تستعجل وتقول: قبلت، فلما فكّرت ما هو البديل وما الذي ستشتريه بدل هذه السيارة، فوجدت أنك ستتضرر أكثر، فحينئذٍ تقول: لا أريد، وترجع عما قلت، وكان الأصل أنك ملزم بما قلت، لكن الشرع أعطاك هذا النوع من المهلة، وهو ما يسمى بخيار المجلس.

كذلك من حكمة مشروعية خيار الشرط: أن المسلم يشترط على أخيه المسلم في صفقة البيع، وذلك من أجل أن يدفع الضرر الموجود في السلعة، أو يدفع الضرر الذي يتوقع حدوثه من المضي في البيع، أو نحو ذلك من الأسباب التي تدفعه إلى الشرط.

مثال ذلك: لو أن رجلاً عرض عليك أرضه بعشرة آلاف، هذه الأرض قال لك: إنها طيبة وجيدة ويحتمل أنها في المستقبل تكون قيمتها أغلى، وهذا المكان الذي فيه الأرض له مميزات، فجعل يشرح لك الأمور التي ترغبك في شراء هذه الأرض، فبطبيعة الحال قد يكون الإنسان ليس عنده إلمام بمثل هذه الأمور، ويكون جاهلاً بسوق العقار، ولا يعلم كيف البيع والشراء كطالب علم لا يشتغل بمثل هذه الأمور.

فالله عز وجل من حكمته جعل له خيار الشرط فيقول له: قبلت البيع؛ ولكن لي الخيار ثلاثة أيام أستشير فيها وأرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، فإن أنعموا البيع أنعمت وأمضيت، وإن أشاروا عليّ بغيره فإني على خياري.

فهو حينئذٍ يدفع عن نفسه ضرراً، خاصة أن البيع قد يكون بمبالغ كبيرة يتضرر الإنسان بدخوله في مثل هذه الصفقات، وقد تكون محتاجاً إلى هذه الأرض ولا بد لك من أرض أو لا بد لك من سيارة.

فهذا النوع الثاني من الخيارات، فكما أن الأول يدفع عنك ضرر الاستعجال في بتّ البيع، كذلك هذا يدفع عنك ضرر ما يقال في السلعة أو يقال في الصفقة من المرغبات التي لا حقيقة لها، فيكون خيار الشرط سبباً في حفظ المسلم من أن يخُتل أو يضر به.

<<  <  ج:
ص:  >  >>