للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لمن يثبت خيار المجلس ومتى ينتهي]

قال رحمه الله: [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما]: فللبائع الخيار، وللمشتري الخيار.

وذكر هذا لأن الخيار في بعض الأحيان يكون للمشتري، ولا يكون للبائع، فلو اشتريت سيارة وظهر بها عيب، فإن الخيار لك وليس للبائع؛ لأن خيار العيب يكون للمشتري ولا يكون للبائع.

وهناك خيارات للطرفين ومنها خيار المجلس، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) وفي رواية: (المتبايعان) فهذا يشمل البائع ويشمل المشتري، فلو رجع البائع فذلك من حقه، ولو رجع المشتري فمن حقه أيضاً، ولا يختص خيار المجلس بأحدهما دون الآخر.

إذاً: المسألة الأولى في هذه الجملة، أن خيار المجلس يشمل الطرفين، فهو حق ثابت للبائع، وحق ثابت للمشتري، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) فلم يقل: (المشتري بالخيار)، ولم يقل: (البائع بالخيار)، وإنما قال: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان).

وقوله: (ما لم يتفرقا) هذه صريح قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) والتفرق: تفرق أقوال، وتفرق أبدان، وتفرق الأقوال لا إشكال فيه، لكن الإشكال في تفرق الأبدان، فإذا كان لكلا المتعاقدين حق في إمضاء البيع وفسخه ما داما مجتمعين في مكان واحد، فمتى ينتهي خيار المجلس؟ ينتهي خيار المجلس بالافتراق أو بالقطع من أحدهما، أي: بأن يتفقا على أن يقطع أحدهما الصفقة، كما سنبين إن شاء الله، ففي حالة الافتراق، لا بد من ضابط وهو متى نحكم بكونهما افترقا؟ إن كانا في غرفة، وقع الافتراق بخروج أحدهما من الغرفة.

إن كانا في فضاء، كصحراء ونحوها وليس هناك حد معين، فيكون الافتراق أن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فبمجرد أن ينصرف عنه ويعطيه ظهره كأنه ذاهب عنه، فقد فارقه؛ ولكن ما دام أنه مقابله ومعه، فإنه لم يفارقه.

إذا كانت الغرفة كبيرة جداً، ولا يمكنهما أن يخرجا منها، كسفينة أو نحوها، فالافتراق العرفي أن يذهب أحدهما إلى ركن والآخر إلى ركن، فلو أنهما تعاقدا في ركن، ثم قام أحدهما إلى أمر في آخر السفينة، فإننا نفهم أنه قد فارق أخاه، وبالعرف يصدق عليه أنه قد فارقه.

وبناء على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولم يجعل للتفرق ضابطاً معيناً لاختلاف الأعراف واختلاف الأماكن، ومن هنا يقول العلماء: تنطبق عليه قاعدة: (العادة مُحَكّمة)؛ لأن الشرع في بعض الأحيان يطلق، وما أطلقه الشرع يترك الخيار فيه إلى الناس فيرجعون فيه إلى ما تعارفوا عليه، وإلى ما انضبط عندهم بأعرافهم التي لا تخالف الشرع ولا تصادمه؛ لأن شرط اعتبار العادة والعرف ألا يكون مصادماً للشرع.

وعلى هذا فالافتراق يكون على حسب ما يسميه الناس في أعرافهم افتراقاً، فيقضي القاضي أن البيع وجب وتم بثبوت الافتراق، إذا كان العرف يشهد بأن هذا التصرف من البائع أو المشتري يسمى افتراقاً، وهذا ما يسميه العلماء بالرجوع إلى أهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة في السوق كيف يكون ضابط الافتراق في عرفهم.

وهكذا إذا اختلفت الأسواق، مثل: أهل السمك لهم عرف غير أهل القماش، وأهل الخشب لهم عرف غير أهل الحديد، فهذه أمور يرجع فيها إلى الأعراف الموجودة، فكل أهل صنعة يحتكم إليهم في صناعتهم، وهذا أصل قرره العلماء في مسائلهم، والله عز وجل إذا أطلق الشيء ورده إلى العرف رجع فيه إلى أعراف المسلمين، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:٢٢٨] وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:١٩] فيرد الأمور إلى العرف؛ لأن الشرع يأتي بالقواعد الكلية والضوابط الإجمالية ويترك للمسلمين ما ألفوه واعتادوه.

والسبب في هذا: أنه لا يمكن أن تجتمع الكثرة في البيئة الواحدة، من عقلائها وحكمائها وكبار السن فيها على شيء غالباً إلا وفيه خير؛ لأن أهل الصناعات لهم ضوابط معينة درجوا عليها؛ لأن الغالب أن أهل العقول هم الذين يحكمون الأسواق، وهم الذين يتصرفون، والغالب في الناس أنها تجري معاملاتها بما يتفق مع العقول السوية، فهذه أعراف يحتكم إليها؛ لكن ينظر فيها إلى أهل الخبرة الذين لهم معرفة بها، فيرجع إليهم في ضوابط الافتراق على حسب ما تقرر في أعرافهم التجارية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>