للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[التواضع وفضله]

السؤال

إن التواضع مما يجب أن يتحلى به المسلم، وطالب العلم إلى التواضع أحوج، فهلاّ تفضلتم بتوجيهٍ حول هذا الأمر، أثابكم الله؟

الجواب

التواضع من أجلّ الأعمال التي يحبها الله جل جلاله، ومن تواضع لله رفعه، والتواضع لا يكون إلا بصلاح القلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى من حكمته إذا اطلع على سريرة العبد ووجد فيها الخير، أن يظهر ذلك لعباده ويكشفه، وقلَّ أن يغيب عبد سريرة خير أظهرها الله في وجهه ولسانه وفلتات جوارحه وأركانه.

ومن تواضع لله طاب معدنه، وطاب قلبه، وزكت نفسه؛ لأنه يريد الله والدار الآخرة، ولا يتواضع إلا من عرف الله وعرف مقدار نعمة الله جل جلاله عليه، ولا يكون التواضع بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتكلف ولا بالرياء، ولا محبة للثناء؛ ولكنه شعور صادق نابع من نفس مؤمنة صادقة موقنة، تريد ما عند الله سبحانه وتعالى.

وأحق من يتواضع العلماء وطلاب العلم، وأهل الفضل والصالحون، خاصة كبار السن، لقربهم من الآخرة، ودنوهم من الأجل، فهم أحق الناس بانكسار القلب لله، وتواضع القلوب لعباد الله، والعلماء يتواضعون لأن خشية الله سكنت قلوبهم، ومحبة الله والذلة له سبحانه وتعالى استقرت في نفوسهم، فأصبحوا لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].

التواضع خلق محمود؛ ولذلك تخلق به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الأمة تواضعاً، وأقربهم للناس، حتى إن الناس بين يديه كأنهم هم الملوك وهو بين أيديهم من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والخلفاء على ذلك، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يمشي في الناس، ويجلس بين الناس ولا يشعر بفضله على عباد الله، وهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأعظمها زلفى وقربى عند الله جل جلاله.

وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه مثالاً في التواضع، وكذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا كان أئمة السلف ودواوين العلم.

فقد كان الإمام محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وكان إذا جلس بين الناس باسطهم وألفهم وألفوه، حتى كأنهم لا يشعرون أنه عالم، وإذا جن عليه الليل سمع البكاء من بيته، فكانوا يتواضعون لعلمهم بالله، وتعظيمهم لحدود الله، وأنه مما ينبغي عليهم أن يشكروا نعمة الله، فيتواضعوا لعباد الله.

وكان سفيان الثوري الإمام الجليل، والسيد العالم العابد رحمه الله برحمته الواسعة من تواضعه أنه يرفع قدر الفقراء في مجلسه، فكانوا يقولون واشتهر عنه ذلك: (ما كان أرفع الفقراء في مجلس سفيان)، فكان يقربهم إليه، ويباسطهم ويكون أليفاً ودوداً رحيماً بهم، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتخلق بخلق الكرماء، الفضلاء، الأتقياء، الحلماء، ومن رزق التواضع فهو خليق به أن يكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟! أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذي يألفون ويؤلفون).

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع إن كريم الأصل كالغصن كلما يزداد من خير تواضع وانحنى فالرمان والأشجار اليانعة كلما ازدادت من الخير تدلت أغصانها وقربت من القاطفين، وهذا هو شأن أهل العلم والصلاح، وشأن الأخيار المتقين.

ومن الكبر العبوس في وجوه الناس، وعدم إلقاء السلام عليهم، واحتقارهم لألوانهم، أو أحسابهم، أو مناصبهم، أو مراتبهم، أو أشكالهم، أو عاهاتهم، الله الله أن تزدري عباد الله، فإنك إن تواضعت لخلق الله أحبك الله، فإن الله يحب منك أن تتواضع لعباد الله، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات حينما عبس وتولى على الأعمى، وكان جاءه يريد أن يتزكى، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:٣] * {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:٤].

فهذا الذي تراه ضعيفاً عظيم عند الله بإرادة الزكاة، وبإرادة الخير والهدى، ولما أراد وجه الله عظم عند الله، لا لعينه التي ذهب نورها، ولا لحاله وبؤسه وفقره، فانظر إلى الناس بقلوبهم ودينهم، فإذا رأيت أخاك المسلم في المسجد، محافظاً على الصلوات الخمس، ثيابه مرقعة رث الهيئة فأحبه لله وفي الله، وسلمِّ عليه ولو كنت من أغنى عباد الله، فإن الله يحب أن يسمع منك هذه الكلمة، التي تشعره فيها بأخوة الإسلام، وإذا صلى بجنبك فالله الله أن تشيح بوجهك أو تصعر بخدك، أو تشعره بالأنفة أو السآمة أن يجلس بجنبك، وإذا جلس بجوارك الفقير أو صلى بجوارك من هو أضعف منك حالاً فتعامل وكأنك بجوار أغنى الناس وأكثرهم مالاً، واجعل عندك الشعور أنك تصلي أمام أعز الناس إن شعرت أنه ذليل.

إذا فعلت ذلك فإن الله يحبك، فمن كان عنده هذا الشعور تواضع للناس، وأظهر الله من شمائله وآدابه وأخلاقه، قال عدي رضي الله عنه وأرضاه (حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه من الشام، وهو على دين النصرانية، وقد عاتبته أخته السفانة -؛ قال: أتيته فانطلقت معه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فاستوقفه صبي، فوقف له، حتى قضى حاجته، والله ما سئمه ولا مله -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقت معه، فاستوقفته امرأة، فوقف لها حتى قضت منه حاجتها، فقلت: والله! ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فلما دخلت بيته، رمى لي بعرض وسادة، فقلت: ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، ملك صلى الله عليه وسلم العباد بالمحبة والتواضع، فلماذا يتكبر الإنسان؟ إن كان المال، فالله هو الذي أغناه، وإن كان القوة والعزة والصحة والعافية فالله هو عافاه، فمن شكر نعمة الله عز وجل أن يتواضع لعباد الله.

والذي ينبغي للمسلم أراد أن يتواضع أن يكون تواضعه لله، لا من أجل مدح الناس، وأن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا ينتظر إلا أن الله يرضى عنه، وأن يرى الله منه أنه اغتنى وما تكبر في غناه، وأنه طلب العلم، وما تكبر في طلبه للعلم.

وآخر ما أختم به هذه الكلمة: أن يتواضع الشباب الأخيار وطلاب العلم لإخوانهم ممن هم دونهم، فهذا أمر مؤكد أن تنتشر الألفة والمحبة بين طلاب العلم، وألا يقع بينهم تنافر أو تكبر، بل ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يجعلوا هذا العلم رحمة بينهم.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها سواه.

اللهم إنا نسألك الإخلاص لوجهك الكريم، ورضوانك العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>