للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الغبن الذي يثبت به الخيار]

قال رحمه الله: [إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة]: كما إذا جئت إلى بائع الطعام فقال له: بكم هذا الحب بكم الكيلو بكم الصاع، قال: الصاع من هذا بثلاثين، فقلت: أريد صاعاً، فأنت حينما دفعت الثلاثين دفعتها على أن الصاع يباع في السوق على المعروف والعادة بثلاثين، فلم تكاسر ولم تساوم؛ لأنك تظن أن السوق مستقر على هذا الثمن.

فلما أخذت الصاع بثلاثين تبين أنه يباع بعشرة، فقد ظلمت بعشرين، فمن حقك في هذه الحالة أن تطالب بما ظلمك به ومن حقك أن ترد الصفقة، ولذلك يقول العلماء: إن الغبن يوجب الخيار بوجود الخديعة من البائع للمشتري، فسكوت المشتري عن المكاسرة والمساومة يدل دلالة واضحة على أنه ما رضي بهذه القيمة إلا لأن السوق مستقر عليها، فإذا تبين أن السوق مستقر على ما دونها كان من حقه أن يطالب.

يبقى النظر في مسألة: وهي أن هذا النوع من الخيار يفتقر إلى إثبات أن المشتري ظلم، وهذا يتوقف على أهل الخبرة، فإن باعه طعاماً رجعنا إلى سوق الطعام وسألنا اثنين من أهل الخبرة على أنها شهادة، وبعض العلماء يقول: واحد من أهل الخبرة يكفي ثم نسأل: هل هذه القيمة غبن فاحش أو غبن يسير، فإن قالوا: هذه القيمة غبن فاحش رد الحق إلى صاحبه، وإن قالوا: غبن يسير، مثلاً الصاع بعشرة، باعه الصاع بعشرة ونصف، أو باعه الصاع بأحد عشر، والريال شيء يسير، ولو كان في العرف الريال له قيمة، والنصف ريال له قيمة، فإنه يعتبر غبناً فاحشاً.

إذاً: الأمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فعندما يأتي عامل ضعيف، الريال عنده بمثابة المائة والألف عند الغني والثري، فنجد غبن العامل والضعيف الذي لا يملك المال إلا بجهد والفقير الذي لا يجد المال إلا بتعب ومشقة؛ ليس كغبن الغني والثري، فإذاً: يختلف الأمر باختلاف الأشخاص من هذا الوجه، ويختلف باختلاف الأزمنة، والأموال في الأزمنة تتفاوت.

وعلى هذا: يرجع إلى أهل الخبرة، ويسألون عن هذا الغبن.

فقيد المصنف الغبن بالفحش، وهو الذي يعظم فيه الضرر، أما لو كان الغبن يسيراًَ، فالبيوع تقوم على المنافسة وعلى الأخذ والعطاء، فالشيء اليسير مغتفر، مثل أن يبيعه البيت بعشرة آلاف ومثله يباع بتسعة آلاف وخمسمائة، أو يباع بتسعة آلاف، ويكون المقصر هو المشتري، وكان ينبغي أن يكاسر أو يساوم.

لكن إذا كان الغبن فاحشاً فإنه لا يغتفر، مثلاً: لو جاء إلى معرض سيارات، فوجد السيارة تباع بخمسة آلاف، فاشتراها بعشرين ألفاً، أو اشتراها بخمسة عشر ألفاً، أي بثلاثة أضعاف قيمتها، وأثبت للقاضي بشهادة أهل الخبرة أنها تباع بخمسة آلاف ريال، فالقاضي يحضر صاحب المعرض ويطالبه بضمان الحق لصاحبه.

فهذا خيار الغبن، ويتوقف على معرفة الظلم، وأن البائع قد اغتنم غفلة المشتري وأضر به ببيعه على غير سنن المسلمين، فيضمن البائع للمشتري حقه من هذا الوجه.

قال رحمه الله: [غبناً يخرج عن العادة]: يغبنه (غبناً) فعل مطلق [يخرج عن العادة]، العادة سميت عادة من العود والتكرار،، وكأنه إذا كانت الصفقة تباع بخمسة آلاف في السوق، فإن البيع يتكرر على هذا الثمن، فأصبحت عادة الناس أن يشتروها بهذا الثمن، والعادة يحتكم إليها، وهي العرف، لكن بعض العلماء يقول: العرف، وبعضهم يقول: العادة، والمعنى واحد، والقاعدة عند العلماء وهي إحدى القواعد الكلية الخمس (العادة محكّمة) أي: أنه يحتكم إلى عوائد المسلمين، ولها ضوابط وقيود ذكرها العلماء رحمهم الله في كتب قواعد الفقه: فأولاً: يشترط في العادة أن تنضبط.

وثانياً: ألا تكون مخالفة للشرع، ولا يكون هناك مصادمة للشرع، فلو اعتادوا أمراً محرماً لم تكن عادة يحتكم إليها.

وعلى هذا: فالغبن يحتكم إلى العادة أي: عادة السوق، وهذا كما قلنا يفتقر إلى شهادة أهل الخبرة.

مثلاً: لو أنه باعه السيارة بخمسة عشر ألف ريال، وهذه السيارة تباع بخمسة آلاف ريال، أو سبعة آلاف ريال، أو ثمانية آلاف ريال، لغالب الناس، وتباع بعشرة وخمسة عشر لأهل البذخ والإسراف، فحينئذ عندك عادتان: عادة مستقرة للعقلاء والذين يحتكم إلى مثلهم.

وعادة لمن لا يعبأ بأمثالهم، وهم أهل البذخ واليسار، الذين لا يبالون بالمال، فمثل هؤلاء لا تعتبر عادتهم، ولا يعتبر وجود مثل هذه الصفقات، وهكذا في الإجارة -كما سيأتينا- لو أجره داره، وكان مثلها يؤجر بألف، فأجره بخمسة آلاف كما يقع في بعض المواسم، فيظلم المستأجر بجهله بالسوق، ويأتي بمن يستأجر في المواسم ويغتنم جهله بالمكان وجهله بقيمة المكان ليزيد زيادة فاحشة عن المثل، فحينئذ يكون له خيار الغبن؛ لأن الإجارة تتفرع على البيع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قال رحمه الله: [بزيادة الناجش]: وهي الاستثارة، والنجش مأخوذ: من قولهم: أنجش الصيد إذا استثاره، ومعلوم أن الصيد إذا كانت الفريسة في مكان فأثيرت فإنه يسهل صيدها عند التحريك وعند إثارتها، كأن يكون مع الإنسان كلب للصيد، أو جارحة كالصقر ونحوه فيستثير هذا الحيوان حتى يتمكن منه، أو يكون في موضع لا يستطيع أن يصيده، فينجشه ويرميه بحجر حتى يخرج عن هذا الموضع إلى موضع يمكن أن يصيده فيه.

فالمقصود: أن أصل النجش الاستثارة والتحريك، ومعنى هذا أن يأتي رجل ويزيد في السلعة -كما ذكرنا- فيراه الغير ويظن أن السلعة لها قيمة، فلا يزال ينافسه ظاناً أنها تستوجب هذه القيمة، والأمر كله خدعة وغش وختل، فإذا ثبت عند القاضي أن الرجل زاد في السلعة من أجل أن يرغب الغير ويخدعه، كان من حق المشتري أن يطالب بالخيار.

قال رحمه الله: [والمسترسل]: المسترسل هو الشخص الذي يشتري الأشياء ولا يكاسر ولا يساوم فيها، فمثل هذا إذا زيد عليه زيادة فاحشة، فإنه يكون في حكم من غبن، ويكون من حقه أن يطالب بدفع الضرر عنه بهذه الزيادة، والضابط في هذا -كما ذكرنا- وجود الزيادة الفاحشة، أما الزيادة اليسيرة والشيء اليسير، فإن شأن البيوعات لا تخلو من وجود غبن إما في حق البائع، أو في حق المشتري، ولذلك لا يعتبر مثل هذا الغبن موجباً للخيار، إذا كانت الزيادة يسيرة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>