للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مسائل الازدحام في الحقوق]

قال رحمه الله: [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله]: من هذه الجملة فما بعد سندخل في مسائل جديدة، وهي التي تسمى مسائل الازدحام في الحقوق، ومن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرونها بعد الصلح، حتى ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وهو من القرون الأول من أئمة السلف، كما في مختصر المزني حيث ذكر عنه مسائل الازدحام بعد الصلح، والمناسبة واضحة؛ لأن الازدحام دائماً في الحقوق يقع فيه الصلح.

فهم يذكرون الصلح كقاعدة عامة في الإقرار والإنكار، ثم بعد ذلك يدخلون مسائل الازدحام، وهذا منهج ورد عليه الأئمة من الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة وأتباعهم رحمة الله عليهم.

فلما فرغ رحمه الله من مسائل الحقوق الخاصة شرع في الحقوق العامة.

الحقوق العامة فيها مسألة الازدحام في الحق الخاص والحق العام، خاصة في الجيران، فلو كان لشخص شجرة ولهذه الشجرة غصن، فأطل الغصن على أرض جاره، فالجار سيتضرر من هذا الغصن بتساقط الورق، أو بشغله إذا أراد أن يرفع شيئاً أو يضع شيئاً فلا يستطيع؛ لأن الهواء قد شغل بالغصن.

هناك قاعدة نذكرها قبل أن ندخل في مسائل الازدحام: من ملك أرضاً ملك سماءها، الذي هو الهواء، وملك قرارها الذي هو الجوف.

فلو أنك ملكت (عشرة أمتار × عشرة أمتار) واشتريتها بمالك، فصارت ملكاً شرعياً ثابتاً، فأنت تملك الهواء وتملك الأرض، فليس من حق أحد أن يزاحمك في هوائها، وليس من حق أحد أن يزاحمك في قرارها هذا أصل.

دليل هذا الأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين يوم القيامة) فجعله معذباً بأسفل الأرض كعذابه بأعلاه؛ لأنه باغتصابه للأعلى كان مغتصباً للأسفل، فدل على أن أسفل الأرض وأعلاها حكمه سواء، وتفرعت على هذا أحكام شرعية في المعاملات والعبادات.

ومن الأحكام في العبادات: أن من صلى في سقف المسجد الحرام نال أجر المائة ألف كما لو صلى في أسفله، وأن المعتكف لو صعد إلى سطح المسجد فإنه يصح اعتكافه ولا يبطل؛ لأنه لم يخرج عن المسجد، شريطة أن يكون خروجه للسطح من داخل المسجد لا من خارجه، وتفرع عليه مسألة الطواف في الدور الثاني؛ لأن الطواف كالصلاة، والصلاة تجوز في أعلاه كما تجوز لمن أسفله.

وتفرع عليه السعي في الدور الثاني إلا أن السعي أضعف من الطواف، ولذلك اختلف العلماء المعاصرين فيه؛ لأن هناك فرقاً بينهما من جهة قوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:١٥٨] وهذه البينية (بِهِمَا) أي: بينهما؛ لأن الباء للظرفية ومن معاني الباء.

تعدَّ لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم ظرفاً يميناً تحز معانيها كلها هذه كلها معانٍ للباء، فلما قال: {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:١٥٨] أي: بينهما، بخلاف الطواف بالبيت فإنه صلاة، وجاء الأصل الشرعي أنه يجوز أن يصلي على أبي قبيس، وقعيقعان مع أن المصلي عليهما يسامت الهواء ولا يسامت الكعبة.

فدل على مشروعية الطواف مع مسامتة الهواء دون مسامتة الجذر، لكن بالنسبة للسعي فلا يشرع بمسامتة الهواء عند من يرى أن الأرض مستحقة للسعي بدليل الهرولة في هذا الموضع المخصوص -وإن كان يعترض عليه بالهرولة في الرمل- هذا القول مردود؛ لأن الهرولة ليست للموضع وإنما هي للسنة المتبعة بالرؤية.

فالشاهد أن المسألة عند من يقول: بأنه يجوز السعي -هو قول له وجهه ودليله- لأنه ينظر إلى أن الأسفل كالأعلى وأن الأعلى كالأسفل، فمن ملك أرضاً ملك هواها، وملك علوها وسفلها، ويتفرع عليها بطلان بيع الشقق؛ لأن الشقة إذا كانت في الأرض وبيعت فسطحها ملك لمن ملك الشقة، وإن استحدث شقة ثانية فقد استحدثها على ملك الغير، وصار على هذا من ملك الأسفل من الشقة ملك أعلاها وإن علا، فلو أنه قيل له إنما يملك الشقة السفلى ولا يملك العليا ناقض الأصل.

ولذلك ما يعمل به اليوم من قيام البعض بشراء أرض ثم يبني عليها عمارة، ويقسم العمارة على أربعة، وكل يأخذ دوراً، فأصبحت العمارة منقسمة على أربعة ويصبح السطح للمالك الحقيقي، ثم يبني المالك الحقيقي شقة أخرى ويبيعها ويقول: أنا ما بعت له إلا الشقة، فأصبح الملك في هذه الحالة متردداً، ويصبح الملك قابلاً للزيادة، وقابلاً للغرر، وهذا يخالف مسألة أن من ملك أرضاً ملك سماءها.

فلو نازع وقال: الشقة العليا لا تملك بالسفلى نوزع بالأصول التي ذكرناها، وقلنا: كيف تصحح الاعتكاف لمن يعتكف بسطح المسجد مع أنه ليس في قراره؟ ومعنى ذلك أنك أعطيت الأعلى حكم الأسفل، وتقول له أيضاً: كيف تصحح الطواف بالدور الثاني، فمعناه أنك تقول: إن من ملك الأرض ملك سماها، وأن علوي الأرض كأسفلها وإلا انتقض قولك في البيع، إذا قلت: بجواز بيع الشقة.

فالشاهد في مسألة سقوط الغصن في ملك الغير، أن الغصن يكون قد جاء على ملك الغير فالهواء ملك لصاحب الأرض، فإن قال صاحب الأرض: الهواء ملك لي، فارفع هذا الغصن عني، فقال: لن أزيله.

حينئذٍ من حقه أن يلوي هذا الغصن، سواء لحقه منه ضرر أو لم يلحقه، فمن حقه أن يقول: لا أريد هذا الغصن أن يطل على أرضي، فهذه أرضه، ومن حقه أن يأذن لمن يشاء ويمنع من يشاء، فإن أصر حل له أن يقطع هذا الزائد من الغصن؛ لأنه اعتداء عليه واعتداء على ملكه، لكن بعد أن يستوفي ما ذكرناه.

قال رحمه الله: [فإن أبى لواه إن أمكن] أي: يحرفه ويصرفه عن أرضه.

[وإلا فله قطعه]: أي: من حقه أن يقطعه ولا يطالبه صاحبه بالضمان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>