للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معنى الآيات: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... ) في سورة الإسراء

السؤال

لم أفهم معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:٧٣ - ٧٥]، فما تفسير ذلك وهل له قصةٌ معينة؟

الجواب

صيغة الشرط لا تقتضي الوقوع والحدوث من كل وجه كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس:٩٤]، فهذا لا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً كان في شك، وإنما هو أسلوبٌ من أساليب العرب؛ ولذلك قرر العلماء أن صيغة الشرط لا تقتضي تحقق الوقوع كقولك للرجل: إن كنت لا تعرفني فاسأل فلاناً، فإن هذا لا يستلزم أنه لا يعرفك، فقد يكون عارفاً بك، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين في حادثة الإفك: (إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله ثم توبي إليه) يعني: إن كان وقع منك الزنا -حاشا- فاستغفري الله ثم توبي إليه، فليس معنى ذلك أنها فعلاً قد وقعت في الحرام، بل هذا معروفٌ في لغة العرب، ثم إن كاد، من أفعال المقاربة والشروع فقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:٧٣] لا يستلزم أنهم فتنوه فعلاً، ولذلك تقول: ما كدت أفعل كذا حتى كان أن يقع كذا، وقال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠]، فالتعبير بهذه الصيغة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:٧٣]، يكون من حكاية الحال في شدة ما عاناه عليه الصلاة والسلام من أذية الكفار له، وهو أسوةٌ لكل داعيةٍ إلى الله، ولكل متبعٍ له عليه الصلاة والسلام أنه سيبتلى ويفتن (ليفتنونك): الفتنة تطلق على عدة معانٍ في القرآن: تطلق الفتنة بمعنى العذاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:١٠]، على أحد الأوجه في تفسير آية البروج، أي: الذين عذبوا أصحاب الأخدود.

وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:١٩١].

وتطلق الفتنة بمعنى: الكذب، ويقال: (فلانٌ فتان) أي: كذاب.

وتطلق الفتنة بمعنى: الصّد، أو فعل ما يكون سبباً في الصد عن دين الله عز وجل، وهذا المعنى يقول بعض العلماء: إنه هو العام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟! أفتانٌ أنت يا معاذ؟!) أي: هل تفعل هذا الفعل حتى يكون فتنة وسبباً في صدّ الناس عن الخير؟! لأن الرجل اشتكى أنه لم يصل من كثرة تطويل معاذ رضي الله عنه وأرضاه.

وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:٧٣]، كان كفار قريشٍ لا يألون جهداً في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتضييق عليه، وكان عليه الصلاة والسلام مع كمال رحمته وشفقته وحبه لهدايتهم أنهم إذا سألوه الأمر أن يفعله، ربما أحب وقوع ذلك الأمر من أجل أن تحصل الهداية لهم؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام قد جبل الله قلبه على الرحمة كما شهد بذلك من فوق سبع سماوات، فالله سبحانه وتعالى جبله على حب أمته وعلى حب الخير لها في الدنيا والآخرة كما في الحديث: (فيسجد تحت العرش ويقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي) وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما أرسل الله إليه جبريل وقد بكى من آيتي إبراهيم والمائدة، قال: يا جبريل! اذهب واسأل محمداً -وربك أعلم- ما الذي يبكيه؟ فلما جاء جبريل وقال: يا محمد! إن الله يقرأ عليك السلام ويسألك -وهو أعلم- ما الذي يبكيك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي فأوحى الله إليه -كما في الصحيح- يا جبريل! قل لمحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك أبداً)، صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وجزاه خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، فهذه الآية تحكي ما كان عليه عليه الصلاة والسلام من حب هداية قومه، وليس المراد به أن يصدوه، وإنما كانوا يطلبون منه التنازل عن بعض الأشياء حتى يكون قاسماً مشتركاً بينه وبين المشركين؛ لكنه عليه الصلاة والسلام ما كان لينطق عن الهوى، وما كان عليه الصلاة والسلام ليميل شيء من قلبه إلى كفار قريش، وإن كان هناك بعض المفسرين قد مال إلى بعض الأقوال، لكن الذي يظهر -والعلم عند الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كمال شفقته وحبه للخير حريصاً على هدايتهم، ولذلك يقول الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:٣٥ - ٣٦] فالمقصود: أنه كان عليه الصلاة والسلام يحب هدايتهم ويحب الخير لهم، وهذه الشفقة الجبرية الفطرية التي جبل عليها عليه الصلاة والسلام مع ما أعطاه عز وجل من زيادة الرحمة وحب الخير لأمته مما يدعوه لمحبة أن تأتي الآيات من أجل أن يصدقوه؛ ولذلك جاءت آيات الأنعام في أكثر من موطن تبين للنبي عليه الصلاة والسلام أن الأمر عندهم أمر جدال وعناد وليس بأمر تحرٍ وتقص للحق، ولذلك بين الله تعالى أنه لو حشر لهم كل شيء، ولو أنه بعث لهم الموتى وأخرجهم من قبورهم وحشروا أمام وجوههم: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:١١١] وفي قراءة: (قِبلا)، أي: قبل وجوههم يرونهم أمامهم {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:١١١] فكانوا -والعياذ بالله- مصرين على كفرهم وعنادهم، فتبين له عليه الصلاة والسلام جلية أمرهم -والقرآن دائماً يكشف لنبيه عليه الصلاة والسلام أخبار الناس، ويكشف له حقائق الدعوة، وكان الله عز وجل مع نبيه في كل أمرٍ من أموره، والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، وهو أعلم بعباده وبخلقه، وأعلم بطبيعة الإنسان وبسجيته من الكفر والإعراض عن الله عز وجل، والتكذيب بحججه وآياته، وهو أعلم بطبيعة البشر- وقد كان يحاول هدايتهم لما جبله الله عليه من محبة الخير لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فكان يحب كثرة الأتباع وكثرة المؤمنين، ويأتي جبريل ويقول له: (هذا ملك الجبال يقرأ عليك السلام، ولو شئت أن تأمره فمره فقال: لو شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين لأطبقت عليهم، فقال: لا.

ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) صلى الله عليه وسلم وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>