للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم تضمين وكيل الوديعة]

قال رحمه الله: [ولا يضمن وكيل الإيداع إذا لم يُشهد].

يعني: من وُكّل في وديعة، فإنه إذا دفعها وقال له: خذ هذه المائة الألف اذهب وأعطها صالحاً يجعلها عنده وديعة، فنحن ذكرنا أن هذه كلها تصرفات الوكيل، فإذا قال له: خذ هذا المال وأعطه صالحاً وديعةً عنده، فإنه من حيث الظاهر أن تصرفات الوكيل يحتاط فيها، والوكيل إذا لم يحتط فيما ينبغي فيه الاحتياط يضمن، وبناءً على ذلك يرد

السؤال

هل يضمن في كل وكالة أو يضمن في وكالات أخرى؟ قال العلماء: هذا يختلف بحسب اختلاف الموكل فيه، كالوكالة في الوديعة، والوديعة مأخوذة من الودع، وأصل الودع الترك، يقال: ودعه، إذا تركه، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:٣] يعني: ما تركك وما هجرك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات -يعني تركهم للجمعات- أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) نسأل الله السلامة والعافية.

فالمقصود: أن الودع هو الترك، وسميت الوديعة وديعة؛ لأنك إذا أعطيت شيئاً إلى شخصٍ وديعة عنده فينبغي أن يترك المال بعينه ولا يتصرف في ذلك المال، وإذا طلبته في أي وقتٍ مكنك منه، فيترك المال دون أن يتصرف فيه ودون أن تمتد يده إليه، حتى قال بعض العلماء: لو كان المال في كيس فلا يجوز أن يفك رباطه، وإذا فك رباطه خرجت الوديعة إلى الضمان، وهذا لو فك الرباط فقط، فضلاً عن كونه يتصرف فإنه يضمن، فقالوا: لو جاء شخص مثلاً وأعطاك مائة ألف وقال لك: يا فلان! هذه مائة ألف وديعة عندك، فالواجب والمطالب به شرعاً أن تأخذ هذه الألف بعينها خمسمائة، مئات، خمسينات، عشرات، ريالات، تأخذها، وتحفظها بعينها دون أن تتصرف فيها، ودون أن تغير أو تبدل في ذلك المال بعينه، هذا أصل الوديعة؛ ولذلك بينا هذا وقررناه في مسائل الودائع المصرفية، وبينا ضوابط الوديعة، وكيف خرجت الوديعة من يد الأمانة إلى يد الضمان لفوات هذا الأصل، فالأصل في الوديعة الحفظ، لكن هذه الوديعة الضمان فيها ضيق، ويد المودع -وهو الشخص الذي تضع عنده المال- يد أمانة ولا يضمن، وسيأتي تقرير هذه المسألة وفيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فإذا كانت يده يد أمانة فمعنى ذلك: أنه سواء أشهدت أو لم تشهد فليس هناك كبير فائدة؛ ولذلك قالوا: إنه إذا أعطى الوكيل المال لكي يضعه عند شخصٍ ما وديعةً، فإن المودَع لو أنكر الوديعة لم يستطع أحد أن يطالبه، فليس هناك شيء يدل على الوديعة؛ ولذلك يقولون: إن إذن الموكل بدفع المال وديعةً عند شخصٍ آخر يستلزم أن تكون يده يد أمانة، فقد رضيه أميناً، وإذا رضيه أميناً فيد الوكيل خرجت.

بعبارةٍ أخرى: الآن عندنا صالح، وعندنا وكيل وموكل، الوكيل عنده خمسون ألف ريال مثلاً، فقال الموكل لوكيله: خذ هذه الخمسين ألفاً وأعطها صالحاً وديعةً عنده، فصار عندنا موكِّل، وعندنا موكَّل، وعندنا مودَع، فالموكِّل صاحب المال، والوكيل هو الشخص الذي ينقل الخمسين إلى صالح، والمودَع هو صالح، فحينما اختار الموكِّل صالحاً من أجل أن يودع عنده المال فقد رضي أمانته، وحينما اختار الوكيل لحملٍ المال فالوكيل أمين، ولا يضمن، فحينئذٍ كأنه رضي الطرفين.

وبناءً على ذلك: انتقال المال من الوكيل إلى المودع لم يحدث شيئاً جديداً، بحيث إنه انتقل من يد إلى يد، لم ينتقل من يد ضمان، ولا من يد ضمان إلى يد أمان، فاليد هي واحدة، فهو ينقل بين شخصين رضي أمانتهما، وبناءً على ذلك: لو لم يشهد هذا الوكيل فنقول: إنه لم يفرط؛ فالتفريط وقع ممن وكله؛ فالذي وكله رضي هذا الشخص من أجل أن يحفظ المال، ورضيه أيضاً لأمانته فحينئذٍ لنا الظاهر؛ لأنه مقر بأنه أمين بدليل أنه دفع المال إليه، فالأصل أنه سيقوم بالأمانة ويؤديها على الوجه المطلوب، فإذا قال: دفعت إليه ولم يشهد، فأنكر صالح الخمسين ألفاً، وقد علم الموكِّل أن الوكيل أوصلها، فأنكر صالح، فيرد السؤال، كان المفروض أن يحتاط الوكيل ويشهد على الأصل الذي قررناه أن الوكالة تستلزم الاحتياط، قالوا: لا يضمن الوكيل في هذه الحالة؛ لأن إذن الموكِّل بطرح المال أو دفعه إلى المودع وهو صالح يدل على رضاه بالأمانة؛ ولذلك لا يضمن، وسيأتي -إن شاء الله- بيان كون الوديعة يدها يد أمانة في باب الوديعة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>