للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ضبط العلم مطلوب قبل الدعوة إلى الله]

السؤال

كيف يكون السير في أمور الدعوة إلى الله لطالب العلم؟

الجواب

هناك جانبان ينبغي التنبيه عليهما: الجانب الأول: يتعلق بشخصية طالب العلم، والداعية إلى الله عز وجل، والجانب الثاني: يتعلق بالقيام بمسئولية الدعوة، والجانب الثاني -وهو الدعوة إلى الله- مفتقر بإجماع العلماء إلى الجانب الأول، ولا يمكن أن يؤمر بالدعوة إلى الله إن كان جاهلاً، وقد أشار الله إلى هذا الأصل في قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨]، فأثبت سبحانه أن الدعوة تكون بعد العلم والبصيرة، وكذلك قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:٥٧]، والبينة من البيان والوضوح أي: ما يتبين به الشيء ويتضح به الأمر، وعلى هذا: فلا بد لمن يدعو إلى الله أن يكون على بصيرة وعلم ونورٍ يفرق به بين الحق والباطل والصواب والخطأ، حتى يخرج إلى الناس وأرضيته ثابتة ويكون هادياً مهدياً؛ فإن استعجل وخرج للناس قبل العلم والبصيرة والنور من الله ضل وأضل، وكان -والعياذ بالله- ممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وكم من أمم ضلت وشقيت وبليت بسبب تقدم الجهّال وادعاء العلم من الأدعياء الذين لا بصيرة عندهم! فعلى طالب العلم أن يعلم أن الله لم يكلفه الدعوة إلا بعد العلم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:١٢٢] هذا النفير من أجل العلم والدعوة إلى العلم فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:١٢٢] فجعل النذارة والقيام برسالة الرسل مفتقراً إلى التفقه والتعلم، فلا يمكن لنا أن نقوم بالدعوة إلا بعد العلم.

فيبدأ أولاً: بطلب العلم والتأصيل لهذا الطلب، والتأصيل من جهة من يأخذ عنه العلم والتأصيل للعلم الذي يأخذه، والتأصيل للطريقة والكيفية التي يضبط بها هذا العلم، فإذا بنى علمه على أصل صحيح وكان هذا العلم موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذه من العلماء العاملين الأئمة المهديين، الذين جمع الله لهم بين العلم والعمل، وبين الهداية والاهتداء، والصلاح والإصلاح؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك له كما بارك لهم، ويكون علمه علم حق وبصيرة، وسينفعه الله في نفسه، وسينفع به عاجلاً وآجلاً.

ولذلك أول ما ينبغي أن نبحث في مسألة: هل الدعوة أولاً أو العلم؟ أن نقول: إن العلم هو الأساس والأصل، ونصوص الكتاب والسنة دالةٌ على ذلك، ولا يمكن أن يؤمر إنسانٌ بالدعوة إلى الله عز وجل حتى يكون على علم، لكن هناك ما يسمى بالأحوال المستثناة التي يقوم فيها الإنسان بالدعوة في حدود العلم الذي يتعلمه، وهذه المسألة أظنها هي المقصودة بالسؤال، وهي مسألة: هل لطالب العلم أن يشتغل أثناء طلب العلم بشيء من الدعوة؟ فالحقيقة من حيث الأصل والأفضل والأكمل والذي كان عليه العلماء رحمهم الله: أن طالب العلم ينبغي أن يركز كل تركيزه واهتمامه لطلب العلم، ولا يمنع هذا أنه إذا كان عليه فريضة أو وقف في موقف يحتاج إلى بيان الحق أو إحقاق الحق أو إبطال الباطل أن يتكلم، إنما المراد أن يجعل شغله ضبط العلم؛ لأنه سيخرج للأمة بخيرٍ أكثر مما لو استعجل، ولذلك وجدنا من طلاب العلم من فرغ نفسه لطلب العلم إبان طلبه للعلم، فلما خرج للأمة وضع الله له من القبول ما تدارك به أزمنة كان قد احتبسها وادخرها لطلب العلم، فقد تجد طالب العلم ينحصر ثلاث سنوات في علمٍ يتقنه ويقوم بحقوقه على أتم الوجوه فينفعه الله عشرات السنين بهذا العلم، ويبقى إماما مهديا، ويضع الله له القبول؛ لأن كل من أنصت إليه وكل من نظر إلى علمه وجد فيه الأمانة، ووجد فيه الضبط والإتقان فأحب هذا العلم، ونجد من ثمرات هذه المحبة ما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات، فإذا نُظر إلى مسألة انحصار طالب العلم وعدم استعجاله بالخروج نجد أن ذلك يفضل بكثير ما لو استعجل.

ثانياً: أنه إذا استعجل ربما استزله الشيطان، ولربما وقف في مواقف لا يستطيع فيها أن يقف عما لا علم له -نسأل الله السلامة والعافية- فلربما أفتى بغير علم، ولذلك يهلك بالاستعجال، ولذلك قال العلماء: إن الغالب في طالب العلم إذا استعجل أن يصاب بفتنة الظهور، كما قال الإمام الشافعي إذا تصدر الحدث افتتن، وقالوا في حكمتهم المشهورة: (حب الظهور قَصَم الظهور)، فإذا استعجل وظهر للناس كلما تكلم أو تعلم كلمتين أحب أن يقف فيها أمام الناس، أو كلما تعلم شيئاً قليلاً في علم أخذ يرد على الأئمة والكبار، وأخذ يقوم في المساجد والمجالس، ويتعقب هذا، ويرد على هذا، ويخطئ هذا، حتى -نسأل الله السلامة والعافية- يبتليه الله بفتنة قد تكون سبباً في هلاكه وحرمانه من الخير في دينه ودنياه وآخرته، وسنة الله معلومة في مثل هذا، فطالب العلم عليه أن يتحفظ، ولذلك الذي أوصي به ضبط العلم ما أمكن، ليس معنى قولنا: إنه لا ينشغل بالدعوة أن هذا منع أو تحريم للدعوة، لا.

إنما المراد الأفضل، إلا أن بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم وبعض العلماء المعاصرين يرى أن هذا الزمان اختلف عن أزمنة السلف، وأن الناس بحاجة إلى كل طالب علم، وأن الحاجة ماسةٌ جداً فقال: صحيح أن هدي السلف ضبط العلم أولاً ثم الدعوة، ولكن هذه الأزمنة تستلزم أن يوجد طلاب العلم وأن يوجد الدعاة أكثر، والمسألة فيها اجتهاد، لكن من حيث الأصل لا شك أن الناظر إلى حال السلف والناظر إلى حال الأئمة يجد أنهم ما خرجوا للناس إلا على بصيرة، ولا خرجوا إلا على علم وحقيقة تامة، وإذا كان بينك وبين الله إخلاص وكان بينك وبين الله ورع أن تقف قبل الدعوة وتضبط العلم خوفاً من أن يستزلك الشيطان، فاحتبست لطلب العلم، وصبرت على مجالس العلم وصابرت، فوالله لن تموت حتى يقر الله عينك بفتح منه عاجلٍ أو آجل بهذا العلم، وهذا أمر كان مشايخنا رحمة الله عليهم يوصون به أننا لا نستعجل، ويعلم الله كم رأينا من الأقران ممن يحب أن يتكلم ويلقي الكلمات ويتقدم في المجالس حتى جاء الزمان الذي رأيناهم فيه دون ذلك بكثير، ورأينا من صبر فوقهم بكثير، وهذا لا شك كثيراً ما يكون مبنياً على الورع والخوف من الله عز وجل، وحينئذٍ ننبه على مسألة وهي: أننا إذا رأينا طالب علم تخصص في طلب العلم فينبغي أن لا نشوش عليه، فبعض طلاب العلم خاصة في مثل هذه القضايا الفكرية يضيقون فيها، ويكثر فيها الأخذ والرد، وأيضاً يكثر فيها الجدال والنقاش، فهذا يخطئ هذا، وهذا يصوب نفسه ويخطئ غيره، ينبغي أن نعلم أن مثل هذه المسائل اجتهادية، وأن طلاب العلم لم يبلغوا درجات الاجتهاد في مثل هذه المسائل، فعليهم أن يسمعوا من العلماء، فمن اقتنع بقول عالم يقدم الدعوة هو مأجور -إن شاء الله- غير مأزور، ومن اقتنع بقول عالم يقول: اضبط العلم، وأعطه حقه، والله يتولى أمرك في دعوتك بعد أن تضبط، ويشهد لك العلماء أنك أهل للفتوى والتعليم، فإذا ترجح عنده هذا القول فهو على خير مأجور غير مأزور، ولا ينبغي أن يثرب أحدٌ من الطائفتين، ولكن نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا الإخلاص، فوالله ما كان الإخلاص في قليلٍ إلا كثره، ولا كان في أمر إلا باركه، وليس هذا مانعاً أن يكون لطالب العلم نوع من النفع لعباد الله، فمثلاً: لو أنه كانت له كلمة أسبوعية أو جهد منحصر بسيط جداً في الدعوة يعني: بحيث يكون فيه نفع كثير فهذا لا بأس به، لا بأس أن يكون ذلك، شريطة أن يكون الأصل هو طلب العلم، وأن يجعل هذا بمثابة التنويع الذي يقويه ويقوي عزيمته على طلب العلم، ولعله -إن شاء الله- أن يجد من صالح الدعوات من المؤمنين والمؤمنات ما يكون سبباً في رفعة الدرجات له في الحياة وبعد الممات، فإن تذكير الناس بالله ووعظهم ودلالتهم على الخير من أحب الطاعات، وأفضل القربات، وفيه خير كثير للإنسان، وكم ينتفع الإنسان بدعوات المسلمين له بظاهر الغيب، والحب له في الله، والذكرٍ له بالجميل، إلى غير ذلك مما جعله الله من عاجل البشرى في هذا العلم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما نتعلم ونعلّم، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعفو عنا فيما كان من الزلل والخلل إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>