للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحالة التي يضمن فيها الوكيل ما تلف بيده]

قال رحمه الله: [لا يضمنُ ما تلف بيده بلا تفريط].

قوله: (لا يضمن) حينما قال: (الوكيل أمين) فتفسرها وتقول: الوكيل يده يد أمانة، لا يضمن ما بيده إلا إذا فرط أي: فينتقل من يد الأمانة إلى يد الضمان إذا فرط، وقلنا: الفرق بين يد الأمانة ويد الضمان يحدث في حالة حدوث شيء سماوي، أي: آفة سماوية مثل المطر، والسيل الجارف، والصواعق، فمثل هذه الكوارث إذا نزلت فليس في مقدور المكلف أن يدفعها، فإن قلت: اليد يد أمانة فلا تضمن في هذا الشيء، وإن قلت: اليد يد ضمان يضمن، فمثلاً: لو قال له: وكلتك أن تقوم على مزرعتي أو تقوم على هذا الحد فتحصده ثم تبيعه، فجاء إعصار فأحرق الحبوب، فيده يد أمانة لا يضمن شيئاً، إذ هذا قدرٌ من الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ لا يضمن؛ لأنه منزل منزلة من وكله، لكن لو كانت الحبوب قد آن حصدها فتأخر في حصادها أسبوعين، كان المفروض أن تُحصد وتوضع داخل المخازن وتحفظ، فجاءت الريح أو جاءت الآفة خلال الأسبوع أو الأسبوعين الذين تأخر فيهما؛ فحينئذٍ نقول: قد فرط بمجرد زيادته عن المدة المعروفة والحد المعروف فدخل في الضمان، وخرجت يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، وعلى هذا نقول: إنه يضمن بهذا التفريط، فقرر رحمه الله: أن الوكيل أمين، ولا يضمن ما بيده إلا إذا فرط، والتفريط في الشيء هو: التساهل، والله عز وجل جعل الأشياء حقوقاً وجعل لها أقداراً، وإذا وضع المكلف الأشياء في حدودها وفي أقدارها دون أن يجاوز تلك الحدود ودون أن يقصر فإنه قد أولاها ما تستحقه، فإن قصر بها وأنزلها عن حقها فقد ضيع هذه الحقوق مثل ما ذكرنا: إذا أعطاه -مثلاً- طعاماً وقال له: أنت وكيلي، مثل العامل في المزرعة تقول له: وكلتك أن تأخذ هذا التمر وتبيعه في السوق، وهذا التمر من العادة يحفظ في المخازن بطريقة معينة، فهذا العامل إذا أخذ التمر وكان صاحب المزرعة عنده تلك المخازن وأمكنه أن يضعها في المخازن ولم يضعها فقد فرط، ومثلاً: لو أعطاه طعاماً في فصل شتاء ينبغي حفظه وتبريده، فقصر ولم يحفظه ولم يبرده حتى تلف الطعام فإنه قد فرط، ويلزم بعاقبة تفريطه.

أيضاً مثلاً: لو أعطاه سيارةً وقال له: هذه السيارة تأخذها وتبيعها، فأخذ السيارة وكان المفروض أن يدخلها أو يوقفها أمام بيته، فأخذها وأوقفها في مكان عُرضة للسرقة، فسرق من السيارة شيءٌ أو حتى سرقت السيارة كلها فإنه قد فرط، وهذه الأحوال كلها فيها تفريط.

وفي الشريعة أصل وقاعدة: أن المفرط يلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن تساهله في الأمور وتعاطيها على غير الوجه المعروف يعتبر إخلالاً بالأمانة وإضاعةً للمسئولية، وكأنه قد تقحم ذلك الضرر على بصيرةٍ وبينة، ومن تقحم الضرر على بصيرة وبينة فقد رضي بكل ما ينجم عنه من ضرر، فيتحمل المسئولية، قال رحمه الله: (لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط).

المفروض أن يضاف إليها: (وتعدى)، يعني: إما أن يفرط وإما أن يتعدى، والتعدي: هو أشبه بالجناية على الشيء، أو مجاوزة الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها الوكيل، فالآن -مثلاً- حينما يقول له: خذ السيارة وبعها غداً في المعرض، فأخذ السيارة وأخرها يومين فإنه في هذه الحالة قد تعدى بتأخيره عن الوقت المعتبر.

كذلك من التعدي أن يقول له: خذ السيارة وأوقفها في المعرض، فأخذها وقضى بها حوائجه فقد تعدى باستعمالها لحوائجه الخاصة.

فنحن الآن نمثل بأمثلة واقعية؛ لأننا وجدنا أن الأمثلة القديمة بمعزِل عن حياتنا، ولربما لا يستطيع السائل أن يفهم ما يلزمه في المسألة، فالآن -مثلاً- بعض العمال الشركة توكله بقيادة سيارة معينة لحمل المتاع بين بلدة وأخرى، وهذه السيارة طاقتها حمل ألف كيلو، فالعرف يقتضي أن يكون تحميله لها في حدود طن مثلاً، فحملها زيادةً على الطن، هذا تعدٍ.

لو كانت السيارة بطبيعتها، وقلت له: خذ السيارة واذهب بها إلى المدينة، وهذا مما جرى به العرف، ويعرف الإنسان: أن السيارة في منتصف الطريق إذا كان طويلاً، ينبغي أن يرفق بها، وأن يريحها، وإذا به قد سار بها مرةً واحدة حتى تلفت السيارة، كل هذه الصور وأمثالها تعتبر تعديات، كذلك البيت حينما تقول له: اسكن هذا البيت أو وكلتك هذا البيت أن تحفظ فيه المتاع أو هذا المخزن تضع فيه المتاع، والمخزن لو فرضنا أنه مكون من دورين، والدور الثاني يتحمل في حدود ألف كيلو الذي هو طن، فحمله ألفاً وزيادة، فهذا تعد، كل هذه الصور وأمثلتها سواءً كانت في السيارات أو العقارات أو المنقولات الأخر فإنها تعتبر من التعدي.

كذلك أيضاً: التفريط، كأن يكون الواجب على الإنسان أن يحفظ الشيء في حد، فينزله عن ذلك الحد، فمثلاً: لو قلت له: خذ هذا الكتاب واحفظه عندك وأعطني إياه غداً، أو وكلتك في حفظ هذه النقود على أن تأتيني بها غداً، فأخذ الكتاب ووضعه في غرفة فيها أطفال، فقام الأطفال بتمزيق الكتاب، فإن وضع الكتاب أمام الأطفال يعتبر تفريطاً؛ ولذلك قال العلماء: إن من وضع السلاح كالسكاكين ونحوها والآلات الحادة أمام أطفال فقتل الطفل نفسه، فإنه في هذه الحالة يعتبر مسئولاً عن هذا؛ لأنها سببية، وتعتبر هذه الصور من الصور السببية في القتل، وسيأتي -إن شاء الله بيانها- في باب الجنايات.

ومن التفريط أيضاً: أن تأتي المرأة وتضع طفلها، فتقول لجارتها: خذي هذا الطفل واحفظيه أو أرضعيه، وغداً أحضريه لي، فأخذت طفلها وتركته في مكان فيه خزان أو فيه حُفرة دون أن تستر، هذا تفريط؛ لأن الواجب أن تضع الطفل في مكانٍ يؤمن فيه الضرر، أو وضعته في جوار نار فاحترق، وهو طفل جاهل لا يستطيع أن يعرف مصالحه، هذه كلها صور عند العلماء من صور التفريط التي توجب الضمان، وتوجب تحمل المسئولية سواءً كان ذلك في الجنايات أو في الأعيان أو نحو ذلك من المسائل.

فقرر رحمه الله أن الوكيل لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.

يقول بعض العلماء: ومن التعدي: التأخر في الأزمنة -كما ذكرنا- كأن يقول له: أحضر لي المال غداً، فيتأخر إلى بعد الغد، ففي الغد يكون أميناً، وبعد الغد صار ضامناً، فلو أن المال سرق في الغد يعني: قبل انتهاء الغد فإنه لا يضمن، ولو سرق بعد ذلك فإنه يضمن.

<<  <  ج:
ص:  >  >>