للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم قسمة التركة قبل الوفاة]

السؤال

هل يجوز للمسلم أن يقسم تركته قبل وفاته؟ وما توجيهكم في هذا الفعل؟ هل من الأفضل فعله أم تركه؟

الجواب

هذا الفعل رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وقالوا: لو أن شخصاً قام بتوزيع تركته قبل موته، وأعطى ورثتَه حقوقهم، قالوا: لا بأس بذلك، خاصةً إذا كان قريباً من الموت.

وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن هذا الأمر فيه شيء من التغرير؛ لأنه ربما طرأ الوارث الذي يكون مستحقاً ويتعذر للميت أو للشخص أن يوفي له حقه؛ كما في حال القسمة لو قسم في أول محرم من العام الماضي، وأعطى كل ذي حق حقه، على أن يرى أنه يعدل بينهم، فأعطاهم على مقتضى قسمته، ثم طرأ وارث في هذه السنة، لا يمكن أن يسترد المال؛ لأن المال قُبض وأُخذ، فإن قلنا: إنه يأخذ حكم الهبات؛ لأنهم يفرعونها ويقولون: كما لو وهبهم وأعطاهم في حال حياته، أليس من حق الوالد أن يعطي ابنه هذا عشرة وهذا عشرة ويعطي أبناءه بالقسمة وبالعدل؟ نقول: بلى، من حقه ذلك.

قالوا: إذا كان من حقه أن يهب فمن حقه أن يقسم، وتكون القسمة أشبه بالهبة.

قالوا في هذه الحالة: لو أنه أعطاهم ثم طرأ وارث بعد ذلك لم يملك أن يأخذ؛ لأن الهبة تُملك بالقبض، وهؤلاء قد قبضوا ما وُهبوا، وبناءً على ذلك: تستقر ملكيتهم للموهوب.

وإذا قال لهم: ردوه.

فقد رجع في هبته، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع في الهبة، وقال: (ليس لنا مَثَل السَّوء: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) كما في الصحيح.

فقالوا: في هذه الحالة لا يمكن، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، فعلى المسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بذلك، صحيحٌ أنه عليه الصلاة والسلام لا يُوْرَث ولا يُوَرِّث: (نحن معاشرُ الأنبياء لا نُوْرَث، ما تركناه صدقةً)؛ لكنه لم يأمر الناس ولم يدلهم على هذا، ولو كان هذا من سنته لدل عليه، فليس من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام القسمة في حال الحياة.

وأيضاً لما كانت المواريث قد تولى الله قسمتها من فوق سبع سماوات، ولم يَكِلْها إلى مَلَك مقرب ولا إلى نبي مرسل؛ فالواجب الوقوف عند الشرع.

وأنبه على مسألة وهي: أن بعض الناس يتكلف بعض الأمور ويستعجلها قبل أوانها، وليس هناك احتياط، ولا صيانة للحقوق، ولا أداء لها أتم ولا أكمل مما بينه الله في كتابه وعلى لسان وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تحاول أن تفعل هذا الشيء وتقول: هذا أفضل أو هذا أكمل حتى لا يختلفوا من بعدي وحتى لا يتنازعوا، فاترك الأمر لله، واترك الأمر لقسمة الله عزَّ وجلَّ، فإنك لو فعلت هذا لربما حصل أمر لا تُحمد عقباه، ومن أوجه ما يُعترض به على هذا أنه لربما قسم ماله في أول السنة، وكان له ابن ذكر، فأعطى ابنه الذكر -مثلاً- خمسين ألفاً، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن هذا الابن الذكر توفي قبل أبيه، فهو يعطيه على أنه سيرثه، والواقع أنه جاء وقت الإرث وليس بمستحِق من الإرث شيئاً، فحينئذٍ أعطى من لا يستحق في الإرث من حيث الأصل، والخمسون ألفاً لربما أخذها الابن وأضاعها في أموره، ولا يمكن تداركها.

وقد يقول قائل: إنها ستئول ميراثاً للبقية.

نقول: لكن الإرث من الابن ليس كالإرث من الأب، والنصيب يختلف، فنصيب الأخت مع أخيها ليس كنصيبها كبنت، فالأمر يحتاج إلى شيء من التأني والروية، واتباع هدي السلف الصالح رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، ولا نجاوز هذه الحدود، فلا يقسم الرجل تركته قبل موته بل يوقف على الشرع، فإذا توفي ترك ورثته لحكم الله عزَّ وجلَّ.

وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.

وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يعترض ويقول: ربما أعطى أحد أبنائه أرضاً على أنها بمائة ألف، وبعد يوم أصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال؛ لأنكم تعرفون قسمة المواريث قد يكون فيها نوع من الغرر، فيقدر العمارة بمائة ألف، ويقول: أنت نصيبك من التركة مائة ألف، إذاً: تستحق العمارة الفلانية فيأخذها، ثم مباشرة ينزل ويكسد سوقها، أو عند قسمة الإرث تكون إحدى الأعيان قيمتها أكثر من الأخرى، فكل هذا فيه غرر ومخاطرة.

فينبغي ترك القسمة -كما ذكرنا- لقسمة الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو الأفضل والأكمل، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>