للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وصية في التفكر في آيات الله الكونية]

السؤال

إن التفكر في الآيات المنثورة في الكون والفلوات مما يزيد من إيمان العبد، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل تلا أواخر آل عمران، فهل من وصيَّة حول هذا الأمر؟

الجواب

سعادة الدنيا وبهجتها وسرورها وأنسها بذكر الله جل جلاله، وأسعد الناس في هذه الدنيا من عمر الله قلبه بذكره، ولا حلاوة ولا لذة لهذه الدنيا إلا إذا عرَف العبد ربه، وبمعرفة الله جل جلاله بأسمائه وصفاته، ودلائل وحدانيته، وشواهد قدرته وعظمته، تُحِبه صدق المحبّة، وتخافه كمال الخوف، ومن عرَف الله أحبَّه وهابه ومن أحب الله وهابه تكفَّل الله له بسعادة لا يشقى بعدها أبداً.

ولذلك أمر الله بذكره، وندب كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُكثِر من ذكره سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:٤١] * {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:٤٢] * {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:٤٣].

فهذا الإله العظيم، من عظمته جل جلاله، بل من عظيم كرمه وجوده علينا، أن جعل هذا الكون كله يذكِّر به سبحانه وتعالى، فإذا نظرت أمامك أو نظرت خلفك، أو عن يمينك أو عن شمالك أو من فوقك أو من تحتك؛ وجدت شواهد عظمته ودلائل ألوهيته ووحدانيته سبحانه وتعالى.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وفي كل شيءٍ له دليل وشاهد على أنه المتفرِّد بالملكوت والجبروت سبحانه وتعالى، فإذا نظرت إلى السماء وهي مظلمة في الليل تتلألأ كواكبها ونجومها، وكيف قُدِّرت ونُظِّمت ورُتِّبت السماء ليس فيها فطور، تتعاقب عليها الليل والنهار، وتتابعت عليها الدهور والعصور، وما اختلفت، ولا تغيّرت ولا تبدّلت، ولا أصبحت ضعيفة بمرور الأزمان: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:٨٨] سبحانه وتعالى؛ لأن الله خلقها وقال لها: كوني، أي: كوني على أتم الوجوه وأكملها، فكانت وما زالت على أتم الوجوه التي صنعها الله وقدرها عليها.

وإذا نظرت إليها وقد أشرقت شمسها، واستبان ضوؤها، وكيف أصبح الإنسان في وضح النهار يرى عظمة الله سبحانه وتعالى في كل شيءٍ يراه بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يحسه في جسده، كل ذلك يدل على عظمة الله ووحدانيته وقدرته.

سعادة المؤمن أن لا يغفل عن الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى جعل الآيات حتى في النفس.

وقف الأطباء حائرين أمام عظمة إله الأولين والآخرين، وقفوا أمام العين وهي جزء من البدن، تجدهم يبحثون ويتعبون ويكدحون دهوراً وقروناً وأزمنة تلو الأزمنة، ومع ذلك يقفون على طرف البحر ولم يخوضوه.

في كل زمان جديد، وفي كل زمان مُكتَشَف، ومع ذلك قلّ أن تجد من يقول: لا إله إلا الله! وقل أن تجد من يقول: آمنا بالله، فإذا نظرت إلى العين فقط ودلائل عظمة الله سبحانه وتعالى فيها كيف أنها تميِّز بين الألوان! وكيف أنها تفرِّق بين الأشكال والأحجام، تتصوّر الأشياء ثم تُنقَل هذه الصورة إلى دِماغ الإنسان في أقل من طرفة عين.

يقفون أمام الكمبيوترات والمصنوعات التي خلقها المخلوق الضعيف، والذي إذا أخطأ وقف كل شيء، ولا يقفون أمام عظمة الله جل جلاله، ولا يسبحون الله ولا يمجدونه سبحانه وتعالى، بل أكثر الناس عن آيات ربهم غافلون.

ولذلك فسعادة المسلم أن ينظر إلى عظمة الله.

وقف الأطباء أمام العين وهي مريضة سقيمة، فعجِبوا من أمراضها المتعددة، وأسقامها المختلفة، وما تُصاب به على اختلاف الإصابات، وإذا بكل مرض له حدود، وله قدْر، وله مكان، لأن الله قدّرَه وحدّده، لا يزيد ولا يمكن أن يُجاوز هذا الحد بعينه.

علّمهم سبحانه ودلّهم، فإذا بهم يَحارون من هذه العين وهي سليمة، ويحارون منها وهي سقيمة، ثم بعد ذلك كله تفضَّل وتكرّم فأعطاهم الدواء، ودلّهم على عظمته ووحدانيته وقدرته، أنها إذا تعطّلت فهو قادرٌ على أن يعيدها، وقادرٌ على أن يجعلها كأحسن مما كانت عليه، فيقفون في طب القديم أو طب الحديث أمام عروقها وأعصابها فيعالجونها بدوائها، فإذا بها قد تفتّحت وأبصرت، وإذا بالمواعيد التي تُحدد للعمليات الجراحية وللعلاجات محددة، مقدّرة يُقال: ضع هذا الدواء ثلاثة أيام افعل كذا ثلاثة أيام، ولا تفعل كذا، واحجبها عن النور، وافعل وافعل، وإذا بها بعد ثلاثة أيام تشفى.

إن الله هو الشافي، ووالله لا طبيب ولا مداوٍ يستطيع أن يجاوز قيد شعرة من عظمة الله جل جلاله.

ثم لما تفضل عليهم بذلك اغتروا فقالوا: علِمنا طب العيون، فقال لهم: خذوا من عظمتي ودلائل وحدانيتي، فأوقفهم حائرين أمام كفيفٍ لا يُبصر، فقال لهم: أعيدوا له البصر، فإذا بهم يقفون أمامه، ويصفقون الأيدي، فقالوا: خلقك الله أعمى فلا نستطيع أن نرد لك البصر، فجاءهم بصحيح كان يُبصر بالأمس، وفجأة طُفئ نوره فأصبح لا يرى، وانفصلت شبكيته فقال لهم: ردوا البصر إن كنتم قادرين، فقالوا: آمنا بالله رب العالمين.

هذا حدود الطب.

فتجد أقوى طبيب يقف أمامه ويقول له: لا أملك لك شيئاً، فعلنا المستحيل ولا نستطيع أن نجاوز عظمة الله الجليل، وقفوا حائرين أمام عظمة الله جل جلاله في كل شيء.

لو قرأت عن عالم الطب في الأعصاب، وما جعل الله في هذا الجسم من الأعصاب الدقيقة في جميع أجزاء الجسم، تنقُل الأحاسيس الحار والبارد يُنقل إلى دماغ الإنسان في أقل من طرفة عين، وتقف أمام أي موقف فتُنقَل أحاسيسك إلى الدماغ، فلو كنت أمام نار فإن ما تراه العين يُنقَل إلى الدماغ: أنني أمام نار، وإذا بالدماغ يفهم أن النار مُحرِقة، فيأتيك الأمر من الدماغ: ارجع فِرّ ابتعد، خذ الماء، وذلك في طرفة عين.

هذا الجهاز -جهاز العصَب- في دراستي لبحث الدكتوراة، جلست مع طبيب متخصص في مسألة التخدير الجراحي، كان متخصصاً فقط في مسألة الأعصاب وكيفية تخديرها، والله حار العقل من عظمة الله جل جلاله، فيقف ويقول: سبحان الله رب العالمين، ما أغفلنا عن الله! ووالله إن التفكر في عظمة الله ودلائل وحدانية الله هو لذة الدنيا وسرورها، ينتقل المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة، ولا يزال يتفكَّر في ملكوت الله حتى يملأ الله قلبه بالمعرفة بالله، وعندها يطمئن ويرضى بالله، إن أصابته ضراء صبر، وأحسَّ أن الكون كون الله، فلم يجزع ولم يتسخط، لأنه يحس بعظمة الله جل جلاله، ويفر من الله إلى الله، وإن أصابته سراء ذلّ لله جل جلاله، فإذا بك تراه غنياً في ثوب فقير، وإذا بك تراه عزيزاً في ثوب ذليل، فيقول: الله أعطاني والله أغناني والله أولاني فيُثنِي على الله بما هو أهله، فإذا هي كلمات تُفتّح لها أبواب السماوات، يراها أمام عينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

إن التفكر في عظمة الله وملكوته، أمرٌ ينبغي للمسلم أن لا يغفل عنه في جميع الشئون والأحوال، فإذا وفّّق الله العبد لذلك فقد أعطاه سعادة الدنيا والآخرة.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تملأ قلوبنا بالإيمان بك، اللهم إنا نسألك حلاوة الإيمان ولذة اليقين، ونسألك بعزتك وأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل لنا من ذكرك وشكرك وحسن عبادتك أوفر الحظ والنصيب، حتى تتوفانا وأنت راضٍ عنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>