للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأحكام المترتبة على عقد المساقاة من جهة العامل]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان بعض الأحكام المترتبة على عقد المساقاة، وقد ذكرنا غير مرة أن العلماء والفقهاء رحمهم الله إذا بينوا العقود الشرعية من حيث اللزوم وعدم اللزوم فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان الآثار المترتبة على هذه العقود، فإذا اتفق طرفان: المالك للأرض والنخيل أو الأعناب مع العامل على سقي العنب والنخيل، وتمت المساقاة بالصورة الشرعية؛ فإن هناك التزامات على العامل، وهناك التزامات على رب الأرض، فيرد

السؤال

ما هو الواجب على العامل أن يقوم به بناء على هذا العقد؟ وما هو الواجب على رب الأرض صاحب النخل بناء على هذا العقد؟ فعقد المساقاة عقد مقابلة ومعاوضة، فكل واحد من الطرفين يعطي للآخر شيئاً ويأخذ مقابل ذلك شيئاً آخر، فالعامل عليه التزامات، وضبط بعض العلماء هذه الالتزامات بأنه يجب عليه القيام بكل ما يتكرر في العام مثل تأبير النخل وتصليحه، وتصليح العراجين التي فيها ثمرة النخل، ومثل تقليم العنب، وغير ذلك من الأمور التي سنبينها ونفصلها إن شاء الله تعالى، فهذه الأمور تتجدد.

وعلى رب الأرض ومالكها أيضاً التزامات ينبغي أن يقوم بها، فالآن سيشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الالتزامات حتى لا يدخل العامل على حق رب المال، ولا يدخل رب المال على حق العامل، ولا يلزم العامل بشيء لا يلزمه بالعقل، فلا بد من معرفة ما الذي على العامل وما الذي على رب الأرض.

فيلزم العامل كل شيء فيه مصلحة الثمرة وهذا يشمل أموراً منها ما يتعلق بالنخلة ذاتها أو شجرة العنب نفسها، حيث يقوم بأشياء معينة هي من مصلحة الثمرة، بحيث إذا أخل بها أضر بالثمرة.

فعندنا مثلاً تأبير النخل، لو أنه لم يحسن تأبير النخل أضر بالثمرة، فهو ملزم بناء على حق المساقاة أن يقوم بالتأبير وتصليح النخل بالطريقة المعروفة والمتبعة، والتي يسير عليها الناس في العرف.

كذلك هو ملزم في تقليمه للعنب وقيامه على مصالح الثمرة بجميع ما جرى به عرف المزارعين، وأصحاب الأعناب في إصلاح هذه الثمرة، هذا بالنسبة لنفس الشجرة، فيشمل هذا إزالة الشوك الذي يسمى في عرف العامة اليوم (البرش) برش النخيل، ويشمل إصلاح الأقنية، والذي يعرف في عرف العامة اليوم (تعديل الأقنية)، ويلزم بالتأبير.

أما بالنسبة لما يتعلق بأرض النخلة فيلزمه حرث الأرض، والمراد بذلك ضربها بمسحاة وقلب ظهرها وإخراج بطنها حتى يشمس، ووضع السماد، وإزالة الحشيش، وهذا سنبين أسبابه؛ لأن هذه الأشياء كلها إذا قام بها العامل انتفعت الثمرة.

فالأرض إذا سقيت وكانت أرضاً زراعية فيها غذاء، وفيها القوة، فإن الثمرة تكون قوية، والقوة التي تعين الأرض بقدرة الله عز وجل وتساعد على صلاح ثمرة المزروع فيها لا بد من تعاطي أسبابها، فعندما تحرث الأرض ويقلب بطنها ظاهراً وتأتي الشمس عليه تنتفع الأرض أكثر وتتفكك، وحينئذ تقوى عروق النخل على امتصاص الماء، كذلك يضع السماد فيها، فإن السماد إذا وضع في الأرض اغتذت الأرض، بحيث إذا امتصت جذور النخيل امتصت غذاء فانتفعت الثمرة، فيكبر حجمها ويجود طعمها، ولربما كثرت الغلة، فبدل أن تخرج النخلة عذقاً أو عذقين أو ثلاثة قد تخرج عشرة، وهذا كله يعرفه أهل الخبرة بالنخيل.

فإذاً: مادام أن حرث الأرض يصلح الثمرة فإنه يلزم العامل، لكن نلزمه بالعرف عند أهل النخل، مثلاً أنها تحرث مرة في السنة فنلزمه بمرة في السنة، وإذا جرى العرف في المزارع التي حصلت فيها مساقاة أنها تحرث مرتين فحينئذ نقول: احرثها مرتين، وهذا الحرث يكون على صورتين: تارة بنفسه يضرب بالمسحاة، وهذا أشق ما يكون من عناء، خاصة إذا كان في مزرعة كبيرة، وتارة (يعزق) بالآلة، آلة الحرث من بقر أو ما يوجد في زماننا من الآلات التي يستعان بها بعد الله عز وجل في (عزق) الأرض وقلب بطنها إلى ظهر.

إذاً حوض النخلة يحتاج إلى إصلاحه بالسماد وإصلاحه بالمسحاة بعزقه، وربما أيضاً تحتاج النخلة إلى إصلاح الحوض لحفظ الماء، وهو ما يسمى بالعقوم، فيقوم بعقم الأحواض، وكل نخلة لها عقم، فتارة يكون صغيراً، وتارة يكون كبيراً، فلو أن هذا العقم تساقط مع مرور الشهر والشهرين خاصة مع الرياح إذا كانت الأرض جافة، فينزل العقم وإذا نزل كانت نسبة الماء قليلة ولا ترتوي بها النخلة، وإذا قل الماء قلت الثمرة فنقول: أنت مطالب برفع هذه العقوم، وإذا كانت العقوم تحيط بالنخلة فعليه أن يرفعها رفعاً يعين على إصلاح الثمرة ويتحقق به النتاج على أتم الوجه وأكملها، هذا بالنسبة للأمور التي نطالب بها العامل في حوض النخلة والأرض.

وهناك أمور نطالبه بها في جريان الماء ووصوله من البئر إلى النخيل أو الأعناب، فإذا كان هناك جداول فإنه يطالب بإصلاح الجداول، والتي تعرف في زماننا (القمطرة)، وقمطرة الماء تحتاج إلى كتفين يجري بينهما الماء وهو الذي يسمى بـ (المقمطرة) ويسمى في القديم الجدول، فكل هذا يطالب به، فنقول له: هذه المزرعة ما دمت قد التزمت بسقيها فأنت مطالب بكل ما يعين على سقيها ووصول الماء إلى النخيل، فيطالب بإقامة هذه العقوم، ويطالب بتقسيمها بين النخيل من أجل أن يجعل لكل نخلة حوضاً، ويجعل لكل مجموعة من الأعناب حوضاً أيضاً، فإذا طالبناه بذلك طالبنا بمصلحة الثمرة، ولا يقول العامل: إن الجدول يُطالَب به رب الأرض؛ لأن الجدول سيبقى في الأرض بعد خروج العامل وانتهاء المساقاة، فقد يقول العامل: رب الأرض هو المطالب بالجدول، نقول له: لا؛ لأن العقد تم على السقي، والقاعدة تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فلما كان التزامك في العقد بينك وبين رب الأرض أن تسقي النخيل وسقي النخيل مفتقر إلى إقامة هذه الجداول، فأنت مطالب بها.

كذلك بالنسبة لهذا الماء فيه مسألتان: المسألة الأولى: تتعلق باستخراجه من البئر، فالعامل مطالب باستخراج الماء من البئر، ومطالب أيضاً بجريانه من الموضع الذي استخرج منه كالبركة أو نحوها، ووصوله إلى النخيل، وإلى الأعناب، فنطالبه أولاً باستخراج الماء فما يكون من الآلات التي تحتاج إلى إدارة مثل ما هو موجود في زماننا من المكائن الزراعية فإنه يطالب بتشغيلها والقيام عليها من أجل إدارتها حتى تدار ويخرج الماء، وإذا كانت تسقى بالنضح والدلو والرشاء، فنطالبه بالجلب إن كانت تسقى بالسواني، ونطالبه بإدارة السواني، فهو يطالب فقط بتحصيل أو بإدارة ما يمكن من خلاله وصول الماء، لكن بالنسبة للآلة نفسها التي هي السانية أو المكينة الزراعية فهي على رب الأرض، ولكن إدارتها وتشغيلها يطالب به العامل.

فنقول: رب الأرض يحضر المكينة ويلزم بإصلاحها إذا تعطلت ويلزم بوقودها وبكل ما يعين على إدارتها وتشغيلها، فلو تعطلت وكان عطلها بدون تفريط من العامل طولب رب الأرض بإصلاحها، هذا بالنسبة لمسألة إخراج الماء من البئر.

قال بعض العلماء: في القديم كان هناك ما يسمى بالعيون، وكانت الآبار تنقسم إلى قسمين: هناك آبار التي تعرف في زماننا بالآبار الارتوازية، فهذه بقدرة الله عز وجل الماء يكون فيها بإصابة العين؛ لأن الماء يجري تحت الأرض بعيون ولربما يكون مثل البحر على حسب كثرته وقلته، قال الله عن الماء: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:١٨] فالله أسكن الماء في الأرض وأجراه عيوناً، ثم هذه العيون والآبار الارتوازية الموجودة في زماننا ليست كالقديمة.

وأنا أقول هذا الكلام حتى يتصور طالب العلم ويعرف كلام العلماء فيما سيأتي؛ لأنه ليس المراد أن نحفظ القديم، إنما المراد أن نفهم كيف نخرج المسائل المعاصرة على المسائل القديمة؛ لأننا إذا قرأنا الفقه بالطريقة القديمة فليست موجودة الآن، وإذا قرأنا بالطريقة الجديدة دون أن نخرج على القديم أصبحنا لا نحسن فهم هذه المسائل وتخريجها، فلا بد من الربط بين القديم والجديد وهذا ما يقوله العلماء، نبدأ من حيث انتهاء السلف رحمهم الله، أي: هم قعدوا لنا فنفهم تقعيدهم وتأصيلهم، ثم نخرج الموجود في زماننا على ما ذكروه.

نقول: المياه إذا جرت في الأرض تجري في عيون، فإذا حفر البئر في زمان فإنه يحفر بقدر معين ونسبة معينة، فإذا أصاب العين جاء الماء، وإذا لم يصب العين فلا ماء، فيمكن أن تجري العين وبينها وبين البئر الذي حُفر شبر واحد وهم لا يدرون، وقد يخسر مائة ألف أو مائتين ولا يجد الماء؛ لأن الله لم يوفقه على المجرى نفسه، فهذه العيون التي تجري في الأرض أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:٥٣].

ومن قدرة الله عز وجل أنه في بعض الأحيان تجري العينان متساوية مع بعضها، فتجري عين مالحة وعين عذبة في مجرى واحد أجراه الله جل جلاله، لا تستطيع أن تجد ملوحة الماء المالح الأجاج في الماء العذب الذي كالسكر، ولا تستطيع أن تجد عذوبة الماء العذب في الماء الأجاج فبينهما برزخ، لا يوجد بينهما حاجز ولا حائل لكن الله بقدرته وضع هذا البرزخ، وقد ذكر لي من رأى ذلك بعينه من المشايخ حينما كان صغيراً يقول: والله شربت فكان من جانب ماء عذب ومن ألذ وأعذب ما يكون، وجانب ملح أجاج لا تستطيع أن تدخله في فمك، وهذا من قدرة الله، ففي العصر الحديث هذه الآبار الارتوازية لا يستطيع العامل أن يدخل في البئر ويصلح شيئاً فتخريج الماء من الآبار الارتوازية على اصطلاح معين ما هو موجود في القديم.

النوع الثاني: الآبار القديمة وهي التي تحفر بقطر معين على حسب كثرة الماء في الأرض وقلته، ففي بعض الأحيان يكون الماء سطحياً، فقد يحفر مسافة الأربعة أمتار ويصبح بئراً يخرج منه الماء، ويسقى منه الزرع، ثم بعد ثلاث ساعات أو أربع ساعات يعود مرة ثانية ويمتلئ؛ لأن الماء كثير، فهذا البئر الذي هو ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار يكفي لسقي المزرعة، لكن قد يكون السقي عن طريق السواني وهو الدلو، فهذا النوع من الآبار لا يمكن أن ينتفع

<<  <  ج:
ص:  >  >>