للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الرجوع إلى العرف في قدر الأجرة]

وقوله: [وإن دخل حماماً أو سفينة، أو أعطى ثوبه قصاراً أو خياطاً بلا عقد؛ صح بأجرة العادة].

(وإن دخل حماماً) يطلق الحمام في زماننا على مكان قضاء الحاجة، لكن في القديم: الحمام كان موضع الاغتسال، وكانت هذه الحمامات على طريقة معينة ولا تزال توجد إلى زماننا، يسخن فيها الماء ويغتسل فيها، فكانت البيوت ضيقة، وكان الناس يصعب عليهم أن يغتسلوا في بيوتهم فيحتاجون إلى هذا النوع من الأماكن يغتسلون فيه ويتنظفون، وخاصة العمال ونحوهم ممن يصعب عليه وجود مكان يغتسل فيه، فهذا النوع من الأماكن كان يؤجر، فيدخل ويستأجر الحمام، فيحدد له الماء ويحدد له الاغتسال، فهذا النوع من الإجارة صحيح وجائز.

كيف تقرر جوازه؟ مثلاً: أمامنا الحمام للاغتسال، فأنت تسأل أولاً: ما هي المنفعة المقصودة من الحمام؟ ف

الجواب

غسل البدن.

السؤال الثاني: هل غسل البدن مأذون به شرعاً أم لا؟ فالجواب: مأذون به شرعاً.

ثم تسأل: هل هو منفعة مقصودة أو غير مقصودة؟ فيكون الجواب: إنه منفعة مقصودة يطلبها العقلاء.

إذاً: هي جائزة ولا بأس بها.

السؤال

المصنف رحمه الله قرر أنه لا تصح الإجارة حتى نعلم الأجرة، فلو أنه دخل الحمام ولم يحدد الأجرة، أو ركب السيارة ولم يحدد الأجرة، أو نحو ذلك من الأعمال، قالوا: يرجع فيها إلى العرف، فحينما تدخل مع الناس في مكان يؤجر وأنت مع الناس كأنك تقول: مثلي مثل الناس، ويكون عليك أجرة مثلهم، فلو كانت إجارة الحمام، الساعة بعشرين ريالاً، ثم جاء يطالبك بخمسة وعشرين ريالاً، فليس من حقه ذلك، ومن حقك أن تقول: لا أدفع إلا العشرين.

ولو جاء المستأجر يدفع خمسة عشر وبقية الناس يدفعون عشرين، فليس من حقه ذلك، بل يجب عليك دفع العشرين.

إذاً: إذا سكتا عن الأجرة رجع في ذلك إلى العرف، وكان بعض السلف -كما جاء عن ابن سيرين كما ذكره الإمام البخاري - أنه استأجر دابةً من رجل واتفق معه قبل أن يأخذها، فلما مضى حمل له متاعه وأعطاه الأجرة، فجاءه بعد أيام وأخذه إلى نفس العمل ولم يتفق معه، لأنه قد حصل قبل أنهما اتفقا بالأجرة، فسكت رب الدابة؛ لأنه راض بالأجرة المعروفة، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

فإذاً: إذا سكت الطرفان عن شيء معروف مثل السيارة يركبها أحدهما إلى مكان، وهو يعلم أن أجرته عشرة الريال أو خمسة عشر ريالاً فلا بأس، ولكن -كما قلنا- الأفضل والأكمل أن يكون الشخص على بينة من أمره، فتحدد الأجرة، وذلك أضمن لحق الأجير وأضمن لحق مالك العين.

وقوله: [أو سفينة].

وهكذا السفينة، وفي زماننا: القاطرة والطائرة إذا جاء وركبها، مثلاً: في القطار الآن يركب ثم يدفع الأجرة، وفي بعض الأحيان تركب القاطرة أو يركب -مثلاً- الباصات الموجودة في زماننا ثم يطالب بدفع الأجرة -وكانت الأجرة ريالين- فقال: لن أدفع إلا ريالاً.

فنقول: ليس من حقك ذلك؛ لأنك ركبت، ولما ركبت رضيت بما تعارف عليه الناس، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

وقد قرر العلماء رحمهم الله القاعدة الشرعية التي تقول: (العادة محكمة)، والمراد بهذه القاعدة -وهي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها فقه الإسلام، ودارت عليها كثير من مسائل الفقه وأحكامه-: أن ما تعارف عليه المسلمون، وأصبح عادة بينهم دون أن يعارض الأصول الشرعية أو يخالف الشرع؛ فإنه يحتكم إليه، فتقدير الأجور وتقدير المستحقات يرجع فيها إلى العرف.

ولو سألك سائل: ما هو الدليل الذي يثبت أننا نرجع في تقدير الحق إلى ما تعارف الناس؟ تقول: إن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:٢٢٨] فجعل حقوق المرأة، والحقوق الواجبة على المرأة، وكذلك الحقوق التي تدفع للمرأة بالمعروف، فرد ذلك إلى العرف، وبناء على ذلك: فإن الحقوق تقدر بما تعارف عليه الناس، وما جرت عليه عادة المسلمين، فالشخص إذا اتفق مع غيره على إجارة شيء أو تأجير نفسه وسكت الطرفان، فإننا ننظر إلى أهل الخبرة، ونسأل أهل السوق والتجارة والمعرفة بهذه الأمور.

فلو أن شخصاً ركب سيارة من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني وسكت الطرفان، فنسأل: كم أجرته؟ يقولون: أجرته -مثلاً- مائة.

فنقول: يلزمك أن تدفع المائة.

فإذا طالب صاحب السيارة أو العين المؤجرة بأكثر لم يكن من حقه ذلك، ولو أراد المستأجر أن يدفع الأقل لم يكن من حقه ذلك، فيرجع إلى العرف؛ لأن سكتوهما يوجب رد المعاملة إلى الأغلب والأكثر، فما درج عليه الناس في تعاملهم وكان عليه أغلب التعامل فالحكم إليه والمصير إليه.

ولو استأجر منه بيتاً أو شقةً ولم يتفقا على الأجرة، ثم اختصما في النهاية، فنسأل أهل الخبرة وأهل العقار، ونقول: كم أجرة الشقة التي تكون بهذه الصفات قالوا: أجرتها عشرة آلاف ريال، فنقول للمستأجر: ادفع عشرة آلاف ريال.

ولا يجوز له أن ينقص عنها، ولا يجوز لرب الشقة وصاحبها أن يطالب بالأكثر.

وهكذا لو استأجر العامل وعمل عنده وجلس في عمله سنة، وقال له: أعطيك ما يرضيك، وسنتفق لاحقاً، أو لا يكون إلا الخير.

أو نحو ذلك من العبارات، فرضي العامل بذلك، نقول لأهل الخبرة: إذا عمل العامل سنة كاملة في سقي الأرض أو رعي الدواب في هذا الموضع وبهذه الطريقة فكم أجرته؟ قالوا: أجرته -مثلاً- عشرون ألفاً.

نقول: يجب عليك أن تدفع عشرين ألفاً.

وقس على هذا المسائل.

وبذلك نكون قد أنصفنا الطرفين، فنحن لم نطالب رب العمل بأكثر مما يجب عليه، ولم نعط العامل أكثر من حقه، ونقول: كون العامل ما طالب بأكثر من العرف، وكون صاحب العمل ما طالب بالأقل، فإن ذلك يوجب البقاء على المعروف والشائع والغالب، وهذا يكون فيما يحتكم فيه من مسائل إلى أهل الخبرة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل أهل الخبرة، أي: يرجع فيها إلى أهل الخبرة والنظر.

وقوله: [أو أعطى ثوبه قصاراً أو خياطاً بلا عقد صح بأجرة العادة].

مثلاً: لو دفع ثوباً لغسال لكي يغسله، ثم قال الغسال: أعطني عشرين ريالاً.

قال: ما أعطيك إلا عشرة.

فسألنا أهل الخبرة فقالوا: أجرة غسل هذا الثواب عشرون.

فنطالبه بالعشرين ريالاً، ويدفع هذا المبلغ الذي جرى عليه العرف، وهكذا بالنسبة لبقية المسائل.

إذاً: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا سكت المتعاقدان رجع إلى العرف، وهذا لا ظلم ولا ضرر فيه، لا على رب المال ولا على العامل.

لو كان أجرة السيارة في العرف والشائع مائة ريال، ولكن صاحب السيارة قال: أنا لا أؤجرها إلا بألف.

نقول: هذا من حقه، أي: لو جاء إلى رب السيارة وقال له: بكم تذهب بي إلى المدينة؟ قال: أنا أوصلك إلى المدينة بألف ريال.

قال: رضيت.

والأجرة المعروفة مائة ريال، نقول: إذا اتفقتما وتراضيتما على ذلك فيلزمك أن تدفع هذه الأجرة لأنك رضيت بذلك؛ لأن هذا عقد، والله أمر بالوفاء بالعقود، فالشخص قد لا يرضى لنفسه أن يذهب إلى المدينة بمائتين، أو تكون عند صاحب السيارة ظروف أو مصالح، فلو جلس قد يحصل على مائتين ريال بدل أن يسافر ويتعب، فقال له: أنا لا أرضى إلا بثلاثمائة ريال.

حتى يضحي بظروفه ويستطيع أن يتحمل مشقة الذهاب ونحو ذلك.

وكذلك تقدر الأجرة بالمواسم، فمثلاً: لو كان الذهاب إلى الحرم بعشرين ريالاً، لكن في الأيام الحرجة والضيقة يكون بأربعين ريالاً، وركب معه ثم أعطاه عشرين، فمن حقه أن يطالبه بالأربعين؛ لأن ذلك الوقت في شدة الزحام وشدة المواسم لها أجرة تخصها، فهذا الذي جرى عليه العرف وهذا الذي من حقه، كذلك إجارة الدور والبيوت ونحوها تقدر في المواسم بأجرة مثلها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>