للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة]

فقوله: [وتنفسخ بتلف العين المؤجرة].

(الفسخ) في لغة العرب: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله وأماطه عن بدنه، فلما ذكر المصنف رحمه الله لزوم عقد الإجارة ناسب أن يتكلم عن الأحوال التي تستثنى، ويكون حكم الشرع فيها بجواز فسخ هذا الشيء الذي لزم الطرفين.

وقوله: (العين المؤجرة) أي: كالبيت، فلو قال له: أجرني هذا البيت بمائة ألف -مثلاً- هذه السنة.

وقال: قبلت.

فلو انهدم البيت -تلفت العين- فقد فاتت المنفعة التي اشتراها المستأجر، وبفوات المنفعة يفوت عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكنه أن يسكن في هذا البيت وهو منهدم، وقد اتفق الطرفان على أنه مؤجر له بسكنى هذه الدار، فإذا أصبحت الدار غير موجودة فإنه حينئذٍ يحكم بانفساخ العقد، وكما أنه لو باع دابة ثم ماتت الدابة قبل إتمام الصفقة، أو بستاناً، ثم جاء إعصار وأحرق البستان قبل إتمام الصفقة؛ فإن هذا يوجب الفسخ؛ فكذلك في الإجارة.

وكذلك إذا قال له: بعني هذه العلبة من الطعام أو نحوه، فقال: بكم؟ قال: بخمسة ريالات.

فقال: اشتريت.

فلما أراد أن ينزلها البائع سقطت من يده وانكسرت، فلا يمكن أكل هذا الطعام الذي انكسرت علبته أو أريق على هذا الوجه، وفي هذه الحالة لا يمكن الانتفاع بهذه العين، فتقول: انفسخ عقد البيع على هذا المعين وفات بفواته.

وحينئذٍ يعقد معه على عين أخرى إذا أراد وإلا فسخ البيع.

فإذاً: إذا فاتت العين المقصودة التي تم العقد عليها، فإنه حينئذٍ يحكم بانفساخ عقد الإجارة.

وتلف العين مثل انهدام الدار، وموت الدابة والبعير في القديم، ومثله في زماننا السيارات، فلو أنه اتفق معه على إجارة سيارة بعينها إلى مكة أو إلى جدة أو إلى المدينة، ثم في الطريق تلفت مكينة هذه السيارة، حتى لا يمكن أن يتم بها العقد على الوجه المعتبر، فحينئذٍ يحكم بفوات العقد.

وإذا تلفت العين فلها صور: الصورة الأولى: أن تتلف العين قبل ابتداء مدة الإجارة.

الصورة الثانية: أن تتلف العين أثناء مدة الإجارة.

فأما في حالة تلف العين قبل ابتداء الإجارة: فينفسخ العقد بالكلية، وإذا كان قد قبض الثمن وجب عليه رد الثمن إلى صاحبه، وهذا لا إشكال فيه.

وأما إذا تلفت العين أثناء الانتفاع، مثلاً: كان ساكناً في الدار فسقطت الدار وانهدمت، أو سكن نصف شهر وانهدمت في نصفه الباقي، أو احترق البستان أو نحو ذلك من المؤجرات، فحينئذ يحكم بلزوم أجرة ما مضى وفسخ الإجارة فيما بقي، ويستحق الأجرة بقدر ما أخذ، ثم الباقي يحكم بانفساخ عقد الإجارة فيه.

لكن أيضاً هناك تفصيل عند العلماء رحمهم الله في مسألة تلف العين؛ فجمهرة أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة رحمهم الله على أن انهدام الدار يوجب انفساخ عقد الإجارة، لكن فقهاء الحنفية رحمهم الله وبعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي يقولون: أنه إذا انهدمت فينظر فيها، فإن بقي شيء من الدار فيه منفعة انفسخت الإجارة فيما لا منفعة فيه، وتبقى في القدر الذي فيه المنفعة.

من أمثلة ذلك: الدار التي لها فناء وحوش، فإذا استأجر داراً بحوشها، مثل الفلل الآن، يقولون: إذا سقطت الفلة وانهدمت، أو سقطت الفلة وبقي جزء منها صالح للسكن، فإننا نقدر قيمة هذا الجزء المنهدم من الأجرة، ونقول للمستأجر: انتفع بما بقي، وانتفع بهذا الفناء والحوش؛ قالوا: لأنه يمكن أن يستغله لحفظ المتاع، ويمكن أن يستغله لحفظ الحيوان، ويمكن أن يستغله في مصالحه؛ لأن الحوش يمكن الارتفاق به بخلاف البناء.

قالوا: فحينما اتفق الطرفان على بناء وفناء، فمعنى ذلك: أنه يريد للسكن ويريد الارتفاق بالفناء، فإن فات السكن بقي عقد الفناء كما هو، وهذا في الحقيقة إذا نظر إليه من حيث الأصول فله قوة، أعني أنه من حيث الرأي والنظر صحيح؛ لأن القاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال.

والقاعدة المشهورة تقول: الأصل بقاء العقود.

فلو جاء شخص يتكلم ويقول: انهدمت الدار.

نقول: إذاً تنفسخ فيما انهدم؛ لأن ما شرع لعلة يتقيد بها، فإذا كانت العلة هي كون الدار منهدمة فإن الانهدام هو الذي ينفسخ في عقد الإجارة، ويُتقَيَّد به.

إلا أن القول الأول أدق وخاصة في المصالح، لأنك إذا جئت تنظر إلى مصالح الناس وإلى الضرر، فلا شك أن القول أنها تنفسخ كلية قوي؛ لأنك قد تستسمح الفناء وترضى به لوجود البناء، وقد ترضى بالبناء لوجود الفناء، فإذا كان رضا الإنسان بالبناء وكان الفناء تبعاً، فلا ينبغي أن نجعل التابع أصلاً، ولذلك قالوا: من الصعوبة بمكان أن نلزم في هذه الحالة، فمادام أنها انهدمت فالمتفق عليه الشيء الكامل، وإذا ذهب بعضه فإنا لا نلزمه به؛ لأن المستأجر استأجر شيئاً كاملاً لا شيئاً ناقصاً، ولو كان يريد الفناء لقال: أجرني فناءك.

لو كان يريد جزءاً من الدار لقال: أجرني غرفة.

لكن هو قال: أجرني الدار كاملة، فبأي حق نلزمه بالبعض وقد اتفق على شيء كامل متكامل، فهو ما اتفق معه على فناء.

وكل من القولين له وجه، فإن من قال: نفسخها في الجزء الذي انهدم ولا نفسخها فيما بقي، فقوله أشبه بالقواعد من جهة النظر والأصول، ومن قال: إنها تنفسخ كلها، فلقوله حظ من حيث الأصل الذي ذكرناه: أن العقد تم على شيء كامل يفوت بفوات بعضه أو أغلبه، ولما فيه من الضرر على الناس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>