للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مقدار الماء الذي يغتسل به]

قال رحمه الله: [ويتوضأ بمد ويغتسل بصاع] بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل الكاملة والمجزئة، انتقل ليبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر الماء الذي يغتسل به فقال رحمه الله: (ويتوضأ بمدٍ ويغتسل بصاع).

فقوله: (يتوضأ بمد) المد: هو ضرب من المكاييل التي كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والمد أصغرها، وضابطه عند العلماء: ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، أي: أوسط الرجال لو حفن حفنة ملأت هذا المد، وهذا المد لازال موجوداً إلى الآن في المدينة، ويتوارثه الناس جيلاً فجيل، ويعتبر حجة؛ لأنه من نقل الكافة عن الكافة، وهو ربع صاع بالنسبة لمد المدينة، وعرف المدينة باقٍ على الأصل، وقد حررت ذلك بنفسي على كبار السن، وعندهم أنه إذا صنع الصانع المد فلابد أن يحرر، والتحرير: أنهم يأخذون صاعاً قديماً حرر على أقدم منه وهكذا حتى يضبطونه؛ لأنه في بعض الأحيان الصانع يوسع المد، فلم تكن عندهم المعايير منضبطة مثل ما هو الآن في المصانع، فالصانع ربما وسعه وربما ضيقه، ففي بعض الأحيان يقول لك: هذا المد مسح، بمعنى: إذا امتلأ الطعام فيه فمسحته تم المد، وبعض الأحيان يقول لك: حتى يتساقط، يعني: تملأه بالطعام حتى يتناثر، وبعض الأحيان يقول لك: نصف ملء، بمعنى: أنك تملؤه ولا يتناثر كمال التناثر ولكن إلى نصفه وهكذا، فالمد هذا يعدل ربع الصاع، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، أي: من المد الذي هو ملء اليدين المتوسطتين، فلو ملأت بها أربع مرات أو حثيت بها أربع مرات طعاماً أو تراباً ملأت الصاع، وهذا الصاع كما قيل: إنه وحدة من الكيل فوق المد.

وأحياناً يقولون للمد الصغير هذا: صاعاً نبوياً، ولكن المشهور أن الصاع هو الكبير، وهذا الصغير يعد ربع صاع، وكذلك أيضاً هناك وحدة ثالثة وهي: المد الكبير، والمد الكبير ثلاثة أضعاف الصاع، أي: ثلاثة آصع تملأ المد الكبير، فأصبح المد الكبير فيه اثنا عشر مداً صغيراً، فيفرق بينهما، وفي الأعراس قد تسمعهم يقولون: هذا مد كبير أو هذا مد صغير فتفرق بينهما بهذا.

يقول: (يتوضأ بمدٍ) وهو المد الصغير، (ويغتسل بصاع)، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة، وورد عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه اغتسل بإناء قدر الحلاب) والمراد بقدر الحلاب أي: الإناء الذي يسع حليب الناقة، فلو حُلبت ملأته، وهذه ضوابط العرب؛ لأنهم في القديم ما كان عندهم وحدات، فأحياناً يقدرون بمثل هذا وأحياناً يقدرون بشيء تقريبي، وورد عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه اغتسل إلى خمسة أمداد) من المد الذي ذكرناه، وكل هذا على التخيير.

وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملزماً؛ لأنه دلالة فعل، بمعنى: لا يلزمك ولا يجب عليك أن تغتسل بالصاع، بل إن في بعض الأحيان لو اغتسل الإنسان بالصاع ربما أخل، فلا تُطلب السنة بضياع الفرض، وإنما يغتسل بالصاع من يضبط الماء، ويحسن صبه على البدن وحفظه، وهذا موجود، وإن كان بعض العلماء يقول: كان الشيء مباركاً فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمانه، ثم نزعت البركة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه: (إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام -كما في صحيح مسلم وغيره من أحاديث الرقائق- أنه توضع البركة، حتى أن الشاة يطعمها أربعون) الشاة الواحدة تكفي أربعين شخصاً من البركة، وقد نزعت البركة من الأشياء، فربما لو قلت لإنسان الآن: اغتسل بصاع، قد لا يستطيع، بل حتى في عصر التابعين، قال ابن الحنفية: (ما يكفيني)، فرد عليه الراوي: (قد كان يكفي من هو أكبر منك جسداً وأوفر شعراً)، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمقصود: إذا تيسر للإنسان أن يصيب هذه السنة فليصبها، وإذا لم يتيسر له فإنه لا حرج عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>