للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أحوال الرجوع في العارية وحكمها]

فكل من أخذ منك شيئاً إعارة وأردت أن ترجع في هذه العارية فلا يخلو الرجوع من حالتين: إما أن يكون هذا الرجوع لا ضرر فيه، وأصبحت مصلحة الإنسان ليست بمتعلقة به على الوجه الذي سنذكره في القسم الثاني.

وإما العكس؛ فإن كان لا ضرر ولم يرتبط شيء بذلك الشيء الذي وهبت منفعته فيجوز لك الرجوع، وليس من حقه أن يمتنع، ويجب عليه أن يرد لك العين.

الصورة الأولى: مثال: لو قلت له: خذ بيتي أو شقتي واسكنها شهراً، ثم طرأت لك الظروف أثناء الشهر فقلت: يرحمك الله تحول عن مسكني؛ فإنه يجب عليه أن يتحول، ولك الحق في الرجوع، وهكذا لو أعطيته سيارة أو أرضاً.

الصورة الثانية: أن يحصل الضرر إذا رجع، مثال: أن تعطيه سفينة يركبها فلما صار في وسط البحر قلت: يرحمك الله تحول عن السفينة، فلا يمكن هذا؛ فإن الغالب أنه يهلك، أو كان له متاع فقلت له: هذا المركب وانقل به متاعك من طرف النهر إلى الطرف الآخر، فلما صار في وسط النهر قلت: أرجعه وهناك خطر عليه وضرر، حينها نقول: ليس من حقك أن ترجع، وعليك أن تبقى على عاريتك حتى ينتقل إلى الشق الثاني، ويخرج من لجة البحر.

وكذلك في مسألة الجدار: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقك أن تقول له: ارفع الخشب؛ لأن في هذا ضرراً، وقد رضيت على نفسك بالضرر ابتداءً فلزمتك العارية ولزمك البذل إلى أن يسقط الجدار، فإذا سقط الجدار بنفسه فحينئذٍ لا شيء على صاحب الجدار -كما سيأتي- ولا يلزم الجار بدفع الأجرة ولو جلس الجدار مائة سنة يبقى الخشب عليه، لأنه قد التزم بذلك، لكن لو سقط الجدار فجأة فحينئذٍ تنقطع العارية وتنتهي، هذا بالنسبة لما فيه ضرر.

من أمثلتها: الخشب على الجدار، والسفينة في وسط البحر، لكن لو كانت السفينة على طرف البحر فمن حقه أن يقول له: تحول عن سفينتي، ومن أمثلته: الأرض للدفن؛ فلو كان عنده أرض، وقال للناس: ادفنوا فيها موتاكم، أو أذن لميت أن يدفن في هذا الموضع ثم أراد أن يبنيه ورجع عن عاريته، وقال: انقلوا الميت من أرضي، نقول: ليس هذا من حقك حتى يبلى الميت، فإذا بلي الميت وصار تراباً -في قول طائفة من العلماء- صح الرجوع، وإلا فلا.

إذاً القاعدة في العارية: من حقك أن ترجع لمصالحك، لكن بشرط أن لا تتسبب في الضرر على الغير، وإذا أثبتنا أنه من حقك الرجوع فينقسم الرجوع إلى قسمين: القسم الأول: أن لا يكون هناك ضرر، فنقول: من حقك الرجوع، لكن يقبح بك أن ترجع بدون عذر؛ للحديث الصحيح: (ليس لنا مثل السوء ... ) وأما إذا وجد الضرر فحينئذٍ نقول: إذا وضع الخشب على الجدار فليس من حقه أن يقول: ادفع الأجرة، أو ارفع خشبك؛ حتى يسقط الجدار؛ لأنه قد رضي ببقائه على ذلك الجدار فلزمه ما التزم به.

القسم الثاني: السفينة إذا ركبها فلجج بالبحر، إذا كان مكاناً غريقاً لا يمكن التحول فيه، والأرض للدفن، والأرض للزرع وفيها تفصيل، لو قال لك قائل: أريد أن أزرع أرضك الفلانية أو روضتك الفلانية، فقلت له: أعرتك إياها هذه السنة تزرعها، ولا أريد منك أجرة على ذلك، فأخذ الأرض فزرعها فلما زرعها ونمى الزرع وقبل الحصاد قلت له: اقلع الزرع وأخرجه عن أرضي، فحينئذٍ رجعت عن العارية والرجوع يتضمن الضرر وفساد الحصاد، وإذا كان على هذا الوجه فقال طائفة من العلماء: من حقك أن ترجع.

وقولنا: (من حقك أن ترجع) لا نقول له: اقلع الزرع إلا إذا كان بالإمكان نقل الزرع، لكن إذا كان مثل الحب فلا يمكن نقله وبقية الزروع مثله، فنقول: تبقى إلى الحصاد، ومن العلماء من يقول: ليس من حقك الرجوع إلى الحصاد.

وهذا هو الصحيح، مثل قضية الجدار، والسفينة، فالقياس من حيث وجود الضرر أنك حينما سمحت بزراعة الأرض فأنت متحمل لجميع التبعات والآثار المترتبة على هذا الإذن.

لكن لو قلنا بقول بعض أئمة المذهب رحمهم الله الذين يقولون: من حقك أن ترجع، لا تفهم أنها تنتقل المسألة من العارية إلى الإجارة، ويصبح هذا الذي أخذ الأرض مستأجراًَ بعد أن كان مستعيراً، مثال ذلك: لو أخذ الأرض لزرع يستغرق أربعة أشهر فمضى شهران، فرجع صاحب الأرض وبقي شهران، على هذا القول يدفع أجرة الشهرين الباقيين، ونقول: أبقِ الزرع ولكن تلزمك أجرة بقية الأشهر أو المدة الباقية؛ لأنه انتقلت من الإعارة إلى الإجارة، والصحيح: أنه ليس من حقه أن يخرجه حتى يحصد الزرع، للأصول التي ذكرناها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>