للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نصائح لطلاب العلم]

أحب أن أنبه إلى أمر يقع في الدروس، وكثير من الناس حصل عنده لبس فإن البعض يخطئ بعض طلاب العلم، والحقيقة ليس هناك مجال للتخطئة، فالبعض يلاحظ على طلاب العلم أنهم عقب التسليم من الصلاة يقومون مباشرة إلى حلق العلم، وهذا ليس فيه أي غرابة، بل هذا يزكي طالب العلم ويرفع قدره ويشرفه، ويعظم الله عز وجل به أجره؛ لأن مسألة الحرص على القرب للاستماع ومن أجل أن يفهم ويعي أكثر ويتمكن من السؤال إذا أشكل عليه أمر، بعد الصلاة، فهذه كلها لا يقصد بها طالب العلم أنه يتقدم لأجل مصلحة دنيوية، إنما يتقدم من أجل (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن الصحابة رضوان الله عليهم كان أعظمهم خيراً وبركة في حديث رسول صلى الله عليه وسلم أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم.

أما مسألة الاقتتال والازدحام فالنصوص في هذا واضحة: أولاً: القيام بعد الصلاة مباشرة، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمجرد أن صلى صلاة الفجر قام فزعاً إلى بيته، فلما قام عقب الصلاة مباشرة لم يقل أذكار الصلاة ولم يعقب عليها من أجل مصلحة معينة موجودة في بيته، والحديث في الصحيح، وقال العلماء: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الذكر المعتاد لوجود العذر.

فطالب العلم عندما يقوم من مقامه مباشرة من أجل العلم لا نثرب عليه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق الحلاق في صلح الحديبية كاد الصحابة رضوان الله عليهم يقتتلون وهم يحلقون رءوسهم، فكيف إذا ازدحم طلاب العلم من أجل أن يسمعوا (قال الله وقال رسوله).

فيجعل ذلك منكراً وخطأ! من يستطيع أن يجعل إنساناً يشتري رحمة الله ويتخوض فيها، لكن لا يسيء إلى غيره؟ لا نقول: إنهم يزدحمون ويقتتلون، لا.

نقول: إن زحامهم من أجل العلم ومن أجل أن يعي ويسمع لا تثريب عليهم فيه.

وقد كنا مع مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يسبقنا الشخص والشخصان فلا نسمع الفتوى ولا نسمع السؤال ولا الجواب.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يليه أولو الأحلام، وكان يحب أن يليه من يعقل عنه عليه الصلاة والسلام.

فهناك أشياء مخصوصة في مسألة الازدحام ومسألة التقدم حتى في صفوف الصلاة، بمعنى: الصف الأول معروف مكانه ومعروف من الذي فيه، فإذا تقدم الشخص والشخصان لضرورة الازدحام، فهذا لا تثريب عليه.

فطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم فرض عليهم أن يتعلموه، وأن يكونوا على إيمان تام به، وقد تفوت المسألة الواحدة بسبب التأخر، ولا يزال الرجل يتأخر حتى يؤخره الله، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره من الشخص أن يجلس في طرف المسجد ويستند إلى الجدار والحلقة في مقدمة المسجد إلا إذا كان عنده عذر، والبعض يقول: لا أحب أن يكون بجانبي يشوش علي.

وهو يقصد بذلك الخير، ولكن الأفضل والأكمل أن تتخوض رحمة الله، ولذلك تجد طالب العلم في اليوم الأول في الصف السادس، واليوم الثاني في الصف الرابع ثم الخامس ثم الثالث حتى يصل إلى أقرب الناس.

يقول أنس رضي الله عنه وهو يفتخر بهذه المنزلة: (لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك حجة وعمرة) فالذي يشكل عندي: كيف نجعل المعروف منكراً؟! فالحمد لله الذي ما أماتنا حتى رأينا بأم أعيننا من يحرص على هذا العلم، وهذا -والله- نعمة وفخر! الإمام مالك رحمة الله عليه سقطت عمامته أكثر من ثلاث مرات وهو على باب مشايخه، يزدحمون من أجل رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يلومه، ويل للإنسان الذي يتتبع عورات طلاب العلم، فيأتي عامي جلف جاف لا يعرف من العلم شيئاً ويقول: ما هذا الإزعاج؟ لأنه لا يعرف ما الذي يخوض العباد من أجله في رحمة الله عز وجل، فنحن في زمان أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فلا يلام طالب العلم في الحال ولا يمكن أن ينتقص، ولا يمكن أن يقال: إن هذا باطل؛ لأن هذه مسائل خاصة.

في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا توضأ يقتتل الصحابة على وضوئه) ما معنى (يقتتل)؟ يقتتلون على وضوئه وهم يريدون فضلة وضوئه؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمكان المعجزة ولا يشاركه أحد.

لكن نحن نقول: إذا كان الصحابة يقتتلون على قطرات الماء من وضوئه عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يبحث عن قطرات العلم التي يحيي بها ويثري بها الأمة؟! كيف بالذي يتخوض رحمة الله عز وجل وهو يبحث عن هذا العلم، وهو يريد أن يسمع كلمة تقربه إلى الله سبحانه وتعالى؟! لقد رأينا هذا من مجالس مشايخنا -ولا أجعله افتخاراً أو رياءً أو سمعة- والله لقد كنا نجلس في شدة الحر وكان يوافق رمضان، وكان الوالد -رحمة الله عليه- له أربعة دروس متواصلة بعد صلاة العصر، فكان عقب الفجر وعقب الظهر وعقب العصر، لكن أشدها الدرس الذي بعد العصر، آخر النهار، في شدة الصيف.

وتجد الدرس درس صحيح مسلم ثم يعقبه درس الترغيب والترهيب ثم يعقبه درس السيرة، وكل درس من هذه الدروس تكون من بعد العصر، وهذا في الصيف طويل قد يصل إلى أكثر من ساعتين، فكنا نزدحم وإن الشخص يكاد بعض الأحيان يجد رائحة النتن مع حر الصيف.

حتى إن الإنسان تجد أحياناً مثل الزبد على فمه من المشقة، فلا ينقص طالب العلم هذا، كنا نزدحم، وأقسم بالله إنه كان الرجل يضع رجله حتى في بعض الأحيان تتعب الركبة فما أستطيع أن أقف، فهذا لا ينقص طالب العلم شيئاً أبداً، ولا أحد يلوم أحداً، فكانت بينهم من المحبة والمودة ما يسامح فيه الأخ أخاه، ويتجاوز عنه ويحس أنه إذا نافس فإنه ينافس في جنة عرضها كعرض السماء والأرض، ينافس في رحمة الله عز وجل ويتمنى الأخ الخير لأخيه، والذي يهمني: ألا نجعل المعروف منكراً.

أما مسألة السنة الراتبة بعد صلاة المغرب، فهناك من العلماء من يرى أنه لا بأس بتأخيرها إلى بعد العشاء، وأن المغرب والعشاء كالصلاة الواحدة، ويرى أنها سنة بعدية ولو وقعت بعد العشاء فهي بحكم السنة البعدية، وهذا مذهب بعض العلماء وأنا لا أفتي بهذا، وأرى السنة هي الأصل، لكن لو أن طالب العلم تأول القرب للعلم، فالسنة ليست بواجبة العلم فرض عليه، وليس القضية وجود السماعات والميكروفونات، فوجود السماعات والميكروفونات لا يساوي بين الناس، وإلا لاستوى من بخارج المسجد ومن بداخله، والذي بداخل المسجد الأقرب أعظم أجراً من الأبعد؛ لأن الأقرب هو الذي يبكر، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الناس أجراً في الجمعة من بكر إليها؛ لأنه بكر للعلم، وجعلت فضيلة الجمعة من أجل الخطبة، والخطبة لا تقوم إلا على العلم، وعلى الوحي؛ على قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام.

فالمقصود: كم من مرة أجد بعض الإخوان يكتبون الملاحظات وأسكت، ولكني وجدت الأمر يتجاوز الحد إلى درجة اتهام طالب العلم بأنه غير منضبط، وبعض طلاب العلم يظن أن هذا نقص في العلم وأهله، لا والله أبداً، بل هذا مما يرفع قدر طالب العلم ما اتقى الله عز وجل وفعل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياءً ولا سمعة، ولم يضر بإخوانه.

وإن حصل من إخوانك لك ضرر فأحسن الظن بهم وليتسع صدرك لأخطاء إخوانك.

هذا الذي أحببت أن أنبه عليه بحيث لا يكون هناك فهم خاطيء، فمسألة حرص طلاب العلم على التذكير ومحبتهم للخير أمر طيب، ولنحمد الله ونشكره، فكم ترى أعيننا أناساً يقتتلون وهم يشترون الخبز والطعام، ويقفون الساعات الطويلة، وتجد الرجل يدخل مسجداً وينتقد طلاب العلم وهو يرى بأم عينيه من يزدحم على كسرة خبز ولا ينتقده ولا يلومه بل يذهب ويقف معه، نحن في زمان غربة، غربة الحق وأهله، فأقول: الله الله في أعراض طلاب العلم، وينبغي علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وما دام طالب العلم عنده تأويل وعنده حجة، فإنه لا يلام على ذلك، وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولكم فيما تعلمناه وعلمناه، ونسأله السداد والرشاد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>