للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشفعة التي يصح ثبوتها للشريك]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الشفعة لشريك في أرض تجب قسمتها] هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله فيها أن يبين محل الشفعة، هل كل شيء يمكن للإنسان إذا كان شريكاً للغير فيه أن يكون شافعاً إذا باع؟ عرفنا أنه لو اشترك اثنان في عمارة أو أرض ولم تقسم أنه لكل واحد منهما الحق أن يشفع إذا باع الآخر، لكن لو فُرض أنه قسم الشيء المملوك بين الاثنين فأكثر، فعرف كل واحد منهما نصيبه فهل الشفعة ثابتة لو باع أحدهم نصيبه؟ هذه المسألة تعرف بالشفعة في العقار المقسوم.

الصورة الثانية: لو اشترك الاثنان في غير عقار كما لو اشتركا في سيارة -فالسيارة من المنقولات- قيمتها مائة ألف، ودفع كل واحد منهما خمسين ألفاً، ثم باع أحدهما نصيبه بسبعين ألفاً فقال الآخر: أريد الشفعة.

فهل من حقه أن يشفع؟ وبعبارة أخرى: هل تثبت الشفعة في المنقولات كما تثبت في العقارات؟ أولاً: اتفق العلماء رحمهم الله على أن الشفعة ثابتة ومشروعة إذا كان الشريكان يشتركان في أرض، أي: في عقار ولم يقسم، ومن أمثلة ذلك في زماننا العقارات البور التي لم تبن ولم تستغل مثل أراضي المخططات، فلو أن اثنين لهما مخطط واحد اشترياه بمليون مثلاً، أو قطعة أرض كامنة ليس فيها بناء ولا غرس (بور) اشترياها بمليون، كل منهما يملك النصف أو لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث فباع واحد منهما بالإجماع للآخر حق الشفعة؛ لأن الأرض أو العقار الذي لم يقسم بالإجماع تقع فيه الشفعة، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه في الصحيح: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الشفعة ثابتة في العقار الذي لم يقسم: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة).

هذا الحديث يدل على مسألتين: المسألة الأولى: أن الشفعة في العقارات؛ لأنه قال: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فدل على أن محل الشفعة إنما هو العقارات لا المنقولات، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، بناءً على ذلك كل شيء من غير العقارات -من غير الأراضي- لا شفعة فيه، فإذا باع أحد الشريكين نصفه الذي في السيارة أو نصفه في صفقة طعام، أو شريكان في تجارة ألبسة أو غير ذلك فباع أحدهما نصيبه فليس للآخر حق الشفعة إذا كان من المنقولات، الشفعة تنحصر فقط في العقارات.

ثم العقارات تنقسم إلى قسمين: العقار الذي لم يقسم، ولم يعرف كل واحد من الشريكين نصيبه، والعقار الذي قسم وميز فيه نصيب كل واحد منهما عن الآخر، فإذا كان العقار لم يقسم كأرض اشترك فيها اثنان ولم يقسماها بينهما، سواءً كانت مبنية كالعمارة أو كانت فيها غلة كالمزارع ونحوها، أو كانت أرض (بور) فجميع هذه الأنواع من العقارات تثبت فيها الشفعة.

أما إذا كان العقار قد قسم ومن أمثلته: لو اشترى اثنان أرضاً ثم اتفقا على أن تقسم هذه الأرض بينهما بقدر حصة كل واحد منهما من رأس المال، فاتفقا على قسمتها مناصفة، فقسمت وبني الجدار بين الطرفين، أو اتفقا على أن يجعلا طريقاً بينهما فحينئذٍ انفصل كل منهما عن الآخر، فوقعت الحدود، وصرفت الطرق، ولذلك الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرّفت الطرق وفي رواية: صرفت الطرق -بعضهم يقول بالتشديد وبعضهم بالتخفيف، أي: تبينت الطرق- فلا شفعة) فقسم هذا الحديث الناس في الشركة إلى قسمين: عقار لم يقسم، وعقار قسم وعرف كل شريك نصيبه.

فإذا كان العقار لم يقسم قلنا بالإجماع لا شفعة فيه، وأما إذا قسم وعرف كل واحد منهما نصيبه فاختلف العلماء رحمهم الله فيه، هل من حقك أن تشفع إذا كان العقار قد قسم وفصل كل واحد منكما نصيبه عن الآخر، أو ليس من حقك؟ كذلك يتبع هذه المسألة، هل من حقك أن تشفع في عقار جارك الذي يلاصقك؟ فلو أن جارك باع عمارته والعمارة ملاصقة لعمارتك، أو باع مزرعته وهي ملاصقة لمزرعتك، فهل المجاورة في العقار يثبت الشفعة أو لا؟ ظاهر الحديث اختصاص المسألة بمجاورة الدور، فكلام العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا شفعة للجار في دار جاره، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله من حيث الجملة المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.

القول الثاني: تثبت الشفعة في العقار الذي قسم، وتثبت الشفعة لجار الدار إذا باع جاره داره، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.

هناك قول ثالث توسط بين القولين وهو: إذا باع الجار داره وكانت ملاصقة لدارك، والطريق الذي بينكما واحد، وبينكما مرفق أو مصلحة مشتركة، كأن يبيع مزرعته، ومزرعتك ومزرعته تستقيان من بئر واحدة، فحينئذٍ من حقك الشفعة، فأصحاب القول الثالث يقولون: تثبت الشفعة في العقار الذي قسم، وللجار في أرض جاره بشرط اشتراكهما في مرفق من المرافق، إما طريق، أو بئر أو نحو ذلك من المصالح المشتركة حتى يثبت الضرر، بحيث إذا جاء جار غريب غير الجار الذي كنت ترتاح له أو كان معك سابقاً تضررت منه.

والجمهور حين قالوا: لا تثبت الشفعة للجار، استدلوا بالحديث الذي تقدم معنا في الصحيح عن جابر رضي الله عنهما: (قضى رسول الله صلى عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) هذا الحديث وجه الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الشفعة إذا عرف كل واحد نصيبه، فدل على أن الجار لا يملك الشفعة في أرض جاره.

وأما أصحاب القول الثاني فقد استدلوا بأحاديث منها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بصقبه).

والصقب اختلف في تفسيره: فمن العلماء من حمله على العموم واستدل به على مسألتنا.

ومنهم من قال: إن المراد بالصقب الإحسان والبر والصلة، فالجار ينبغي للإنسان أن يتوخى وأن يكون شديد الحرص على الإحسان إليه والبر، وهو أحق ببر جاره من سائر الناس، بناءً على هذا الحديث (الجار أحق بصقبه) من حيث العموم يدل على الشفعة، أكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في السنن: (جار الدار أحق بالشفعة في دار جاره، ينتظر بها إن كان غائبا) هذا الحديث نص على أن جار الدار من حقه أن يشفع فيأخذ دار جاره إذا بيعت.

أما الذين قالوا بالتفصيل فقد استدلوا برواية عند أحمد في مسنده وأبي داود والترمذي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بدار جاره، ينتظر بها إذا كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً) وفي الحقيقة هذا القول اختاره جمع من العلماء من فقهاء الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله عليهم، وبعض المتأخرين كالإمام الشوكاني وغيرهم رحمهم الله، وهو أعدل الأقوال إن شاء الله وأولاها بالصواب؛ لأنه يجمع بين النصوص.

فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالأصل أنه إذا عرف كل واحد نصيبه فلا شفعة، وقوله: (إذا كان طريقهما واحداً) تخصيص من عموم، والقاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنحن نسلم بالأحاديث التي أثبتت الشفعة في مال لم يقسم، ونسلم بالأحاديث التي أثبتت الشفعة في الجوار، بشرط وجود مصلحة ومرفق مشترك بينهما؛ ولأن العقل والنظر الصحيح يدل عليه، فإنهما إذا كانا شريكين في بئر واحدة، كأن تكون مزرعتان وبئرهما واحد، وجاء جار غير الجار الذي أنت ألفته ورضيته، ربما أضر بك وضايقك، وحصل من ذلك الأذية والضرر كما يحصل في حال اختلاط الاثنين في ملك واحد.

وعلى هذا فإنه تثبت الشفعة لجار الدار إذا أراد أن يشفع في دار جاره بشرط أن يكون الطريق واحداً، وكذلك تثبت الشفعة لصاحب المزرعة إذا باع جاره مزرعته وكانت هناك مرافق بينهما مشتركة، كالعين الواحدة، والنهر الواحد، والسيل الواحد الذي يستقيان منه، والبئر الواحدة التي يستقيان منها، وبهذا يجمع بين النصوص، وعليه فإنه يعتبر تخصيصاً من العموم الدال على أنه لا شفعة من حيث الأصل إلا في الشريك المقاسم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>