للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ما تصير به الهبة لازمة]

قال المصنف رحمه الله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ].

قوله: [وتلزم بالقبض] عندنا عقد الهبة والهدية والعطية، وعندنا اللزوم.

الهبة والهدية من حيث الأصل تبرُّعٌ وإحسان، والإنسان إذا أعطى هديةً لأخيه المسلم أو وهبه شيئاً فإنه في حكم المحسن، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:٩١]؛ لكن هذا الإحسان نلزمه به، وتصبح العين الموهوبة ملكاً للموهوب له بوصفٍِ شرعي أو بشرط أجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره والعمل به، وأنه يصيِّر الهبة والهدية ملزِمة.

هذا الشرط هو القبض، فإذا خاطب إنسان غيره وقال: وهبتُك سيارتي أو هذه الساعة أو هذا القلم، فقال الآخر: قبلتُ أو رضيتُ، فقد تم عقد الهبة والهدية.

فلو أنه رجع عن هبته وقال: رجعتُ، أو طرأ عليه ظرف، فامتنع من إنفاذه، فإنه لا يُلزم به؛ لأن الشرط المعتبَر للإلزام حصول القبض، فإذا قُبض الشيء الموهوب لزم، والأصل في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها: (يا بُنَيَّة! إني كنت قد وهبتك عشرين وسقاً جاداً من أرضي بالغابة -وهي شمالي المدينة، وكان له فيها مزارع- فلو أنك قبضتها لكانت ملكاً لكِ اليوم، أما وإنك لم تقبضيها فأنت اليوم وإخوتك فيها سواء).

هذا الخليفة الراشد سنته مُحْتَجٌّ بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على العمل بما دل عليه هذا الأثر، من حيث أن القبض يصير الهبة لازمة، فهو قد وهبها وأعطاها عشرين وسقاً من التمر من مزرعته، ولكنها تأخرت في قبض هذه الهبة والعطية، فعندما حضرت أبا بكر الوفاة رجع عن هبته وأعطيته، فإذا حضرت الوفاة للشخص الواهب، ولم يتم قبض الهدية والهبة، فحينئذٍ يكون حكمها حكم التصرف بالتبرعات في مرض الموت، حكمها -كما سيأتينا ونبهنا غير مرة- أنها لا تصح إلا في حدود الثلث، فما زاد عن الثلث، فهذا يُرجع فيه إلى الورثة، إن أجازوه وأمضوه فلا إشكال، وإلَّا فلا.

إذاً: أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يحكم بلزوم هبته وعطيته لأم المؤمنين رضي الله عنها إلا بالقبض، ولذلك قال لها: (لو أنك قبضتيه -وفي رواية: حزتيه - لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك، فأنت وإخوتك فيه اليوم سواء).

فدل هذا على أن القبض معمول به، وقد حكى الإمام ابن قدامة وابن أبي هبيرة في الإفصاح وغيرهم من الأئمة والفقهاء الإجماع على أن الهبة تلزم بالقبض.

وبين المصنف رحمه الله أن هناك مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الصيغة والعقد، والمرحلة الثانية: مرحلة القبض.

فكل هبة صدرت من إنسان اشتملت على عقد وقبض حكمنا بلزومها.

أما ما قبل ذلك فلا نحكم بلزومها، أي: إذا وقع العقد ولم يحصل القبض كأن يقول شخص لآخر: وهبتك كذا، فيرد عليه: رضيت، ولم يقبضها، فإنه لا يُلْزَم الواهب بالهبة التي وعد بها أو تلفظ بها، ولو كانت حاضرة.

فطالما لم تمتد يد الموهوب له، لقبضه بإذن الواهب فإنه لا يُحكم بلزوم الهبة والهدية والعطية إلا بعد تحقق هذا الشرط.

إذاً: هناك عقد، وهناك قبض، وقد يجتمع الاثنان مع بعضهما، مثلما ذكرنا، كأن تأتي في مناسبة -زواج أو غيره- إلى أخيك ومعك الهدية أو الشيء الذي تريد أن تهبه، ولا تتكلم، فتعطيه إياها، فيجتمع الفعل في الدلالة على الصيغة، ويكون قبضُه لذلك الشيء الموهوب ملزم للواهب لهبته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>