للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم هدية الطالب لمعلمه أو الموظف لمديره]

السؤال

أشكلت عليّ مسألة: ما حكم قبول الهدية من الطالب لمعلمه أو من الموظف لمديره؟

الجواب

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فمن كان في عمل أو وظيفة، وقام بهذا العمل والوظيفة، فلا يجوز له أن يقبل من الناس شيئاً، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أرسل رجلاً على الصدقات، فجاء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم وهذا لي -أي: هذه الصدقات وهذه هدايا خاصة بي- فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً وقال: ما بالي أستعمل الرجل على مال الله عز وجل، ثم يأتي ويقول: هذا لكم وهذا لي، هلا قعد في بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا!).

فدل على أن هذه الهدية جاءت بسبب العمل، وجاءت بسبب المصلحة المتعلقة بجماعة المسلمين، ومن هنا عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبيّن عليه الصلاة والسلام عدم استحقاقه؛ لأنها جاءت تابعة للعمل، وقد نص جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل الهدية على عمله.

وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (كانت الهدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، أما اليوم فإنها رشوة)، يعني أنه كانت النفوس أولاً طيبة وتعطي لله وفي الله، ولكن لما دخلت الدواخل وكثرت المصالح، وأصبح الإنسان يفعل الفعل وهو يجعل الدنيا أكبر همه -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يجعل الآخرة أكبر همه -إلا من رحم الله- خاف العبد الصالح وتورع من هذا.

فالمعلم والموظف ومن في حكمهما لا يجوز لهم أن يأخذوا الهدية، إلا من شخص كان يهدي إليه قبل العمل والوظيفة، فإذا كان الشخص يهاديك من قبل فلا بأس بقبول هديته؛ لأنه لا يختلف الحال؛ لأن هذه الهدية لا شبهة فيها.

وأيضاً: لا يجوز لك أن تقبل دعوته الخاصة، بحكم أنه ليس الأمر موقوفاً على الهدايا؛ بل قد يدعوك إلى وليمة خاصة، فإذا بالموظفين ومن تحته يصنعون الولائم ويتملقونه، وفي الحديث: (من أكل طعام قوم ذل لهم)، فلو كان أضعف موظف عند الإنسان ودعاه إلى طعامه كسر عينه، ولم يستطع أن يقف في وجه يوماً من الأيام؛ لأن النفوس مجبولة على الحياء ممن أحسن إليها، والورع والذي يخاف الله ويتقيه يبتعد عن هذه الأمور كلها.

وللسلف الصالح رحمهم الله في ذلك أروع المواقف، حتى ذكروا عن هارون الرشيد رحمه الله برحمته الواسعة أنه دخل عليه قاضٍ من قضاة السلف رحمهم الله فقال: أنا بالله ثم بأمير المؤمنين أناشدك الله أن تقبل كتابي.

فقد كان قاضياً وإذا قبل الخليفة الكتاب فمعناه أنه قد أقاله من القضاء.

فقال له هارون: لا أقبل حتى تقص لي السبب الذي من أجله امتنعت من القضاء.

فقال: يا أمير المؤمنين! إني عرضت عليّ قضية من القضايا، فجاءني رجل عظيم غني ثري ومعه خصمه، قال: فنظرت في القضية فإذا بها تحتاج إلى تأمل ونظر، فلم أبت فيها، ووعدت الخصمين أن يعودا إليّ بعد أيام، قال: فسمع الغني أني أحب التمر، فذهب واشترى وجمع تمراً من أنفس وأجود أنواع التمر، ثم فوجئت بكاتبي قد دخل عليّ بذلك التمر، فقلت له: ويحك ما هذا؟! قال: هذا من فلان بن فلان.

فأمرت بجلد الكاتب وطردته، ورددت العطية إلى صاحبها، ووبخته وعزرته.

قال: ثم لما حضر عندي الخصمان بعد هذا الفعل، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أن جلسا بين يديّ -مع هذا الاحتياط- ما استويا في عيني.

قال بعض العلماء: كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن معنى قوله: (ما استويا في عيني) أنه وجد أن هذا الغني لما تكلف المال واشترى ثم رده عليه أنه انكسر، فجاءه شيء من الرحمة، أو أنه ما زال حانقاً غضبان على هذا الذي رشاه، وتوقع أنه يفعل مع غيره كفعله، ونظر إلى جرأته مع أنه عزره، لكن لا زال قلبه يحدثه أنه يستحق أكثر من ذلك، فلما جلسا في القضية لم يستطع أن يراهما بمنزلة واحدة، فسأله أن يعفيه من القضاء.

هذه هي منزلة الورع، فقد كان السلف رحمهم الله يخافون خوفاً شديداً من الهبات والهدايا والعطايا، والإنسان إذا أراد النجاة فيحرص كل الحرص على الأمانة، وإذا جاء إلى وظيفة أو عمل أو تدريس فلا يسأل الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى جزاءه، وهو الذي يتولى مكافأته {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦]، وأنعم بالجزاء إذا كان من الله سبحانه وتعالى، وأنعم بالعطية إذا كانت من الله، وانظر إلى حالك حينما يأتيك مخلوق ضعيف يقدم لك عرضاً من الدنيا، فتنظر إلى ما عند الله وما عند المخلوق، فتؤثر ما عند الله على ما عند المخلوق.

وقد تكون في أمس الحاجة إلى هذا الشيء الذي يعرض عليك فترده، فيعوضك الله سبحانه وتعالى من حسن الخلف ما لم يخطر لك على بال، فليس هناك أعظم من مكافأة الله لعبده، وهذا شيء نقوله بألسنتنا، لكن يعرف لذة ذلك وطعمه وقدره من عرفه، فالمعاملة مع الله رابحة، ولا يظن الإنسان أنه إذا أصبح عفيفاً في عمله أو وظيفته أو تدريسه فإنه سيخسر؛ فإن المعاملة مع الله عز وجل ليست فيها خسارة أبداً، فهم يرجون تجارة لن تبور، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله.

قال بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أن الحسنة بعشرة أمثالها في أكثر من آية، وذكر أنها كمثل حبة من سنبل أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، قال: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦١]، قالوا: يضاعف بالتوحيد والإخلاص؛ لأن الشخص الذي تعرض عليه هدية غالية الثمن وهو فقير محتاج، ليس كالشخص الذي تعرض عليه هدية وهو غني غير محتاج، ولأن الشخص الذي تعرض عليه الهدية والرشوة من قوي قادر، ليس كالشخص الذي تعرض عليه وهو قوي قادر من ضعيف، فتحصل المضاعفة والفضل من الله سبحانه وتعالى على قدر البلاء.

فإذا جاءك الطالب يريد أن يعطيك الهدية فلا يجوز لك أخذها، ولا يجوز للمدرس أن يقبل من طلابه عطية ولا هبة ولا هدية، وهذا -كما ذكرناه- نص عليه العلماء رحمهم الله لورود السنة به؛ لأنك تؤدي عملاً واجباً عليك؛ ولأن فتح هذا الباب يفتح على الناس كثيراً من البلاء، فيحابي صاحب الهدية ويجامل، ولذلك يجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور نصيحة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولعامة المسلمين، فيما هو مربوط به من المصالح العامة للمسلمين.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>