للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم هبة المطعون]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها].

لا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للأحكام المترتبة على مرض الموت، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يبين الأمراض المخوفة، فقد تقدم بيان جملة منها، لكن هناك أشياء تقع وتكون عامة، وأشياء تقع وتكون خاصة، فما تقدم من المرض المخوف المتعلق بالإنسان نفسه في خاصته تقدم بيانه، لكن الكوارث العامة والأمور التي تنزل في البلد فتشمل أكثر أهله ونحو ذلك؛ كالأمراض الوبائية، فهذه تأخذ حكم المرض المخوف ولو كان الإنسان سالماً منها، فلو نزل -والعياذ بالله- الطاعون في بلد، وهو نوعٌ من الأمراض التي تنتهي بصاحبها إلى الموت -والعياذ بالله-، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على من قبلنا عذاباً ورجساً، كما جعله الله عز وجل على قوم فرعون، وجعله الله لهذه الأمة رحمةً وشهادة، فأيما إنسان مات بالطاعون فإنه نوعٌ من أنواع الشهادة، فالمطعون شهيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه.

وهذا النوع من الوباء ذكر بعض العلماء أنه في هذه العصر الأشبه به مرض (الكوليرا) أعاذنا الله وإياكم منه ومن غيره، فهذا النوع من المرض يقول بعض العلماء: إنه هو الطاعون، ويحتاج الأمر إلى تحرير والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء.

فالشاهد: أن هذا المرض إذا أصاب الإنسان فإنه يهلكه، وإذا وقع في بلدٍ وفيه إنسان فالسنة أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بلداً فيه الطاعون، ولا أن يخرج من بلدٍ فيه الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرضٍ فلا تدخلوها)، ولما أراد عمر رضي الله عنه دخول الشام لما وقع طاعون عمواس منع بهذا الحديث.

والسبب في هذا: ما ذكر العلماء أن هذا النوع من المرض إذا كان الإنسان موجوداً في البلد نفسه وخرج منه وسلم، ربما اعتقد أن خروجه هو الذي نجاه، وهذا يؤثر في عقيدة المسلم وفي توحيده وإيمانه بالله عز وجل، فالذي خلق الأسباب جعلها مؤثرة بقدرته جل وعلا، ولو شاء الله ألا تؤثر لما أثرت.

ولذلك قال العلماء: إنه منع من الخروج من البلد حتى لا يعتقد المعتقد أن خروجه ينجيه، فيتعلق الناس بالأسباب دون أن يتعلقوا برب الأرباب، أو يشركوا بين الله وبين الأسباب -نسأل الله السلامة والعافية- والشريعة تحرص كل الحرص على أساس الدين، وعلى العقيدة التي عليها نجاة العبد وصلاح أمره في الدين والدنيا والآخرة.

ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة)، قيل المراد: أن يعتقد الإنسان أن العدوى تضر بنفسها، حتى إنك تجد الإنسان إذا مر على مزكومٍ أو على من به مرض من الأمراض المعدية يقطع ويجزم جزماً تاماً أنه إذا صافحه أو سلم عليه أو جلس إليه أو سمعه فإنه سيضره، ولا يكون عنده من التوحيد والإيمان واليقين ما يجعله يعتقد بالله سبحانه وتعالى أكثر وأعظم، ويجعل قدرة الله هي الأساس، وأن الله قادر على أن يجعله لا يصاب بشيء، فكم من أناسٍ بروا بوالديهم وكان الوالد أو الوالدة مصاباً بمرض معدٍ، وبقوا معهم السنين، ومع ذلك ما أصابهم شيء؛ لأن الله لم يرد لهم ذلك.

فالله سبحانه وحده هو القادر على كل شيء؛ ولذلك لما خرج القوم من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:٢٤٣]، لأنهم ظنوا أن خروجهم هو الذي سينجيهم من بلاء الله عز وجل وقدره، فإذا اعتقد الإنسان في السبب اعتقاداً مؤثراً في عقيدته فإن هذا أمرٌ خطير، فالطاعون إذا وقع في بلدٍ فلا يجوز الخروج منه ولا الدخول إليه؛ لأنه إذا دخل ربما اعتقد أن دخوله هو الذي أفضى به إلى الإصابة بهذا البلاء.

وأيضاً: فيه جمعٌ بين السبب وبين المسبب، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لهذه الأسباب تأثيراً، ولذلك فالنار الأصل أنها تحرق، ولكن جبار السموات والأرض الذي أطت له وذلت لم يأذن لها أن تحرق إبراهيم؛ بل جعلها الله برداً وسلاماً عليه، فالله على كل شيءٍ قدير، وهذا النوع من الأمراض الغالب فيه الهلاك، وأنه إذا أصيب به الإنسان فإنه لا ينجو، وإذا ثبت في الغالب أنه مرضٌ فتاك أو مهلك أو مخوف، فإن القاعدة في الشريعة تقول: (إن الغالب كالمحقق)، وإن أحكام الشريعة تناط بالشيء الغالب، والنادر لا حكم له، والغالب في الأمراض المعدية أنها إذا وقعت في بلدٍ فإنها تنتشر، فكل من في هذا البلد الغالب في سنة الله عز وجل وبقدرته جل جلاله أنهم يصابون به بحكم المخالطة والمداخلة، وبحكم الهواء الذي ينقل، وهذا كله بأمر الله عز وجل وقدره، فلو وقع الطاعون في بلدٍ وفيه رجل، وبعد وقوع الطاعون تبرع بمائة ألف، وماله كله يعادل مائتي ألف، فمعنى ذلك أنه تبرع بنصف ماله، فنصحح تبرعه في حدود الثلث؛ لأننا حكمنا بكونه في حكم المريض مرض الموت، وهذا بالنسبة لمن وقع الطاعون في بلده وغلب على الظن أنه يصاب في هذا البلد.

وهكذا بالنسبة لبقية الأمراض المهلكة المعدية التي يغلب على الظن أن صاحبها لا ينجو وأنها تنتشر وتفتك بالجماعات، وبالقرى والمدن إذا وقعت فيها، فإنها تعتبر في حكم المرض المخوف، وتأخذ أحكاماً على التفصيل الذي تقدم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>