للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بيان معنى تأدية الله للدين عن بعض عباده]

السؤال

كيف يجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ حقوق الناس يريد أداءها أدى الله عنه)؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) المراد به: أن الميت إذا مات وعليه دين فإن نفسه تُرهن، والعرب تقول: الشيء مرهون إذا كان محبوساً، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:٣٨].

أي: محبوسة، فعِيلة بمعنى: مفعولة.

فالمراد: أن النفس تُحبس، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر، والحقيقة: أن الأمر فيه شيء من الغيب، فإنه لم يرِد تفصيل عن كيفية حبس نفس الإنسان إذا مات وهو مديون، لكن ورد حديث صحيح، وهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وهو يدل على أمر عظيم، حاصله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بميت فقال: (هل عليه من دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا.

قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما عليّ يا رسول الله! فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أدّيت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته)، فحتى ولو تحمل عن الميت بعض الورثة فيقول: أنا أتحمل عن أبي، فلا يكفي ذلك حتى تُسدِّد بالفعل، فهناك تبرأ الذمة بالفعل.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت جلدته)، هذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يدركه؛ لأنه علم غيب، فأمور القبر والبرزخ أمور غيبية متعلقة بالسمعيات والنصوص التوقيفية، ولا يستطيع أحد أن يجتهد فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يكشف غيبها؛ لأن علم الغيب استأثر الله به، حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا إذا أطلعهم الله عز وجل على شيء من ذلك.

وبناءً على هذا: فلا يُخاض في حقيقة الرهن والحبس، لكن الإشكال كيف نقول هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)؟ اختلف العلماء في قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)، وقد كانت أم المؤمنين رضي الله عنها حفصة كثيرة الدين، وكانوا يلومونها كثرة الدين، فقالت: (لا أترك الدين)، لكنها ما كانت تستدين من أجل أن تبني لنفسها أو تمتع نفسها، فقد كانت من أكرم الناس كأبيها رضي الله عنها وأرضاها، فكانت كريمة سخية لا تُمسك شيئاً في يدها، وهكذا كن أمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن تربين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفن حقيقة هذه الدنيا وهوانها، فكانت لا تُمسك شيئاً فكثُر عليها الدين، فأصبحوا يلومونها، فقالت رضي الله عنها: لا أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه)، فقال بعض العلماء: معنى قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) أي: أنه عندما يأتي ليستدين اطلع الله على قلبه ونيته أنه يريد أن يُسدد، فصيها ويُيَسِّر الله له السداد ولو بعد حين، حتى ولو توفي فإن الله يعين ورثته حتى يسددوا.

وهذا في الذي يأخذ أموال الناس يريد أداءها، أما الذي يأخذها -والعياذ بالله- لا يريد أداءها؛ فإن الله يحول بينه وبين ذلك ولو تمنى، فكلما جاء يُسدد يُحدث الله له مشكلة، ويفتح الله عليه باب فقر، حتى لربما تُوفِّي وهو لم يسدد الناس، ثم عجز ورثته من بعده، ولربما نُسي، فعذِّب بذلك الدين، نسأل الله السلامة والعافية.

إذاً: هذا الأداء المراد به المعونة.

وقال بعض العلماء -وهو القول الثاني-: المراد أدى الله عنه يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:١١٩]، فكل من صدق في نيته وكانت نيته صالحة، فإن الله يتولى أمره بحسن نيته، حتى ولو كان فيما بينه وبين الله، وقد ورد في الخبر أن العبد يُوقف بين يدي الله فتُكشَف له ذنوبه ويشفق على نفسه، فيقول الله: (عبدي! أما وإنك قد فعلت ذلك فقد كنت تخافني وترجوني)؛ وذلك لما كان في ضميره وقلبه، فالشخص إذا كان في ضميره وقلبه أن يُسدد الناس وعجز عن السداد في حياته، ولقي الله يوم القيامة وقد جاء خصومه يطالبونه بالديون، أدى الله عنه؛ لأنه علم منه حسن النية وصِدق القصد في أن يؤدي؛ فكانت هذه رحمة من الله عز وجل.

وفي الحقيقة: أمر الدّين عظيم، وعلى الإنسان -من حيث الأصل- أن يتقيه ما أمكنه، وبعض العلماء يُخفف في هذا إذا كانت نية الإنسان صادقة في السداد، ويعلم الله أنه ما استدان إلا لظروف وضرورة، فيرى أولاده وزوجته، ويرى من يعول محتاجاً، فيذهب يستدين من أجلهم، ويتحمل من أجلهم، كما استدان عليه الصلاة والسلام من أجل عورات المسلمين، وسد حاجاتهم، والقيام عليهم، فأدى الله سبحانه وتعالى عنه دينه، وقد تُوفِّي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في صاعين من شعير ليهودي.

فالمقصود: أن الدين يخفِّف فيه بعض العلماء، وخاصةً إذا جاءت ظروف تضطر الإنسان إلى أن يستدين.

وعلى كل حال: فالإنسان عليه أن يتقي الدين ما أمكن، فهو ذل النهار وهم الليل، نسأل الله بعزته وجلاله وقدرته على كل شيء أن يؤدي عنا حقوق عباده، وأن يخرجنا من هذه الدنيا وقد سلمنا وسُلِّم منا وهو على كل شيء قدير، وعلى هذا: فليس هناك تعارض ولا إشكال، فمن أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ويُصبح مستثنىً من الأصل، فإذا أردت أن تجمع بينهما بالعموم والخصوص، أو تقول: أدى الله عنه، لكن لا يمنع أنه مرهون ومحبوس حتى يؤدي الله عنه، بخلاف الذي كانت نيته غير صالحة فيجمع الله له بين العذابين: بين حبس نفسه، ثم لا يؤدي الله عنه، فيؤخذ من حسناته على قدر مظالم الناس، فيُصبح قوله: (أدى الله عنه) إذا حُمل على أداء الآخرة، فتكون نفس المؤمن مرهونة أو محبوسة بدينه من البرزخ إلى لقاء الله عز وجل، ثم يؤدي الله عنه بحسن نيته، هذا إذا قلنا: إن الأداء هو في الآخرة، وأما إذا كان الأداء في الدنيا، فلا إشكال فيه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>