للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الخلع إذا كان بلفظ صريح الطلاق أو كنايته]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فمن عادة العلماء رحمهم الله أنهم إذا بيَّنوا مسائل الخُلع يتعرضون لما يتعلق بلفظ الخُلع.

وقد تقدم معنا أن الزوج إذا خالع زوجته لم يخل من حالتين: الحالة الأولى: أن يُخالعها بلفظ الخلع دون أن ينص على الطلاق.

والحالة الثانية: أن يخالعها ويطلق؛ فأما في الحالة الأولى وهي أن يخالعها بلفظ الخلع دون أن يذكر طلاقاً، فقد اختلف السلف رحمهم الله في هذه المسألة وتبعهم في ذلك الخلاف الأئمة الأربعة، فقال طائفةٌ من أهل العلم، وهو مذهب الجمهور: إنه إذا خالعها وقع طلاقاً، فلو قال لها: خالعتك أو فارقتك، وكان على سبيل الخلع دون أن ينص على لفظ الطلاق، فإنه يُعتبر طلاقاً، وذكرنا دليل هذا القول، ووجهه وسبب رجحانه، وقلنا: إن الذين قالوا بأنه لا يقع طلاقاً استندوا على ما أُثِر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك عن طائفةٍ من التابعين ك عكرمة وطاووس رحمةُ الله عليهما أنهم قالوا: إن الخلع ليس بطلاق، واحتجوا بآية البقرة، وذكرنا وجه دلالتها والجواب عن هذا الدليل.

أما بالنسبة لقوله: [والخلع بلفظ صريح الطلاق] فإن كان الخلع بلفظ الخلع، فقلنا: إنه يقع، ويكون طلاقاً على الصحيح، إلا أن لفظ الخلع عند من يقول بأن الطلاق لا يقع بالخلع، ينقسم إلى صريح وغير صريح، فالصريح: خالَعْتُكِ وفاديتكِ وفاسختكِ، قالوا: هذه الثلاث كلها تعتبر لفظاً صريحاً في الخلع.

أما لفظ الْخُلع فقالوا: لأنه عُرْفٌ شرعي، وقد جرى العرف أن الرجل يُخالِع امرأته، فإذا قال لها: خالَعتُكِ بألفٍ، فهو خُلع، وبناءً عليه لا يقع الطلاق عندهم، كما هو المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمةُ الله عليه.

وكذلك إذا قال: فاسَخْتُك، أو فَسَخْتُ نكاحك؛ فإنه مثل قوله: خالعتك، فلا طلاق، ويعتبر من صريح ألفاظ الخلع.

أما لفظ الفدية فإنه يعتبر من ألفاظ الخلع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:٢٢٩]، وهناك من العلماء من يقول: هناك فرقٌ بين الخلع والفدية.

فالخُلع يكون ببذل المرأة للمهر وأكثر، يقال: خَالَعَت المرأة زوجها إذا بَذَلَت المهر أو أكثر من المهر، والفدية قالوا: إذا بَذَلَت بعض المهر، وبعض ما دفع الزوج لها، فيجعلون الفدية للبعض، ويجعلون الخلع للكل أو أكثر من المهر.

وقوله رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) هذا النوع الثاني من الخلع عند الحنابلة، وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق، فقال رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) ولفظ الطلاق فيه الصريح وفيه الكناية.

واللفظ الصريح: هو الذي لا يحتمل معنىً غيره؛ فالرجل إذا قال لامرأته: أنتِ طالقٌ؛ فإن هذه الكلمة صريحة في الطلاق، ولا تحتمل معنىً غيره إلا في أحوال نادرة، سنذكرها إن شاء الله عند بيان ألفاظ الطلاق؛ فإذا قال لامرأته: خالعيني، قالت: أدفع لك ألفاً وتخالعني وتطلقني، فأخذ الألف فقال: أنت طالقٍ؛ فحينئذٍ يكون خُلعاً؛ لأنه بِعوض، وإن كان طلاقاً، لكنه بعوض، فيكون من النوع الثاني من الخلع، وهو الخلع بعوض مع لفظ الطلاق.

وصريح لفظ الطلاق اختلف العلماء رحمهم الله فيه، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسألة الطلاق؛ لكن من باب الاختصار والإجمال، هناك من يقول: صريح الطلاق هو لفظ الطلاق، وما تَصَرَّف منه، غير المضارع وغير الأمر كما سيأتي إن شاء الله، فيجعلون لفظ الطلاق الصريح خاصاً بمادة (طَلَقَ) أنتِ طالِقٌ، طَلَّقْتُكِ، أنتِ مُطَلَّقَةٌ ونحو ذلك، هذا صريح الطلاق.

أما غير هذا اللفظ فقالوا: لا يقع طلاقاً إلا إذا نوى، فيعتبرونه من غير الصريح، وقال طائفة من العلماء: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ عندهم: الطلاق والسراح والفِراق.

فإذا قال: طلَّقتكِ، فارقتكِ، سرَّحْتُكِ، فإنه صريحٌ في الطلاق، وفائدةُ معرفة الصريح من غير الصريح: أن الرجل إذا خاطب امرأته بالصريح طلُقَت عليه إلا إن يقيم دليلاً على أنه لا يريد الطلاق، فلو أن رجلاً كان جالساً مع امرأته، فقال لها: سرَّحْتُك؛ فعند من يقول: إنه من صريح الطلاق يُطَلِّقُها عليه، ولكن عند من يقول: إنها كناية وليست من الصريح؛ فإنه حينئذٍ يسأله عن قوله: (سرَّحْتُكِ) ماذا نوى به، وعلى هذا، فقوله: من صريح الطلاق، يعني: من الألفاظ الصريحة، وهي عند الحنابلة تختص بلفظ الطلاق، وما اشتُقَّ منه، وعند غيرهم الثلاثة الألفاظ التي وردت في القرآن: الطلاق والفِراق والسَّراح بلفظ صريح الطلاق.

قوله: (أو كنايته وقصده طلاق بائن) الكناية: من كَنَّ الشيء إذا استتر، فاللفظ المحتمل للطلاق وغير الطلاق يعتبر من الكنايات، وسيأتي إن شاء الله الكلام على كنايات الطلاق، وقد كَنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الكناية طلاقاً، كما في قصة ابنة الجون من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه، فإنه لما نكحها عليه الصلاة والسلام ودخل بها في حائط الشوط وأراد أن يُلِمّ بها، فقال: (هبي نفسك لي، فامتنعت، فمد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عُذتِ بعظيم، الحقي بأهلكِ)، فقال: (الحقي بأهلك)، واعتد به طلاقاً.

ومن هنا قال العلماء: الطلاق يقع بالصريح وبالكناية، فإذا قال الزوج لزوجته -بعد قولها له: خالعني وطلقني- فارقتك -إذا قلنا: إن الفراق من ألفاظ الكناية- فإنه يُعتبر طلاقاً بِنِيَّتِه، ومن كنايات الطلاق: أنت بتَّةٌ، أنت بتلةٌ، أنت برية، أنت الحرج، أنت حرّة، الحقي بأهلك، اعتدي، استبرئي، ونحوها من ألفاظ الكنايات.

<<  <  ج:
ص:  >  >>