للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأدلة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه]

أما الأدلة على أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر فهي: أولاً: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه أقوام من عكل وعرينة واجتووا المدينة أي: أصابهم الجوى، والجوى نوع من الأمراض مثل الحمى؛ لأن مناطق أهل البادية تكون نقية ونافعة، فإذا دخلوا المدن يحصل عندهم نوع من الأمراض؛ لأنهم ألفوا المكان الطلق النظيف، والجوى سببه -كما يقول الإمام النووي رحمه الله-: اختلاف الموضع عليهم.

لأنهم ألفوا طلاقة الجو ونظافة ما يؤكل وما يشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة بسبب كثرة الناس بها وضيق أماكنها، فأصابهم الجوى، والعلة في ذكر الجوى هي: معرفة طب النبي صلى الله عليه وسلم كيف عالج الشيء بمألوفه، حتى أن الأطباء يعتبرون هذا من الطب النبوي، فبعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي نشأ فيه، قالوا: إنه يتأثر بأرضها وهوائها ومائها، وكان بعض الأطباء يداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي ولد فيه الإنسان، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلذلك اختلف العلماء: فقال بعض العلماء: إنما أمرهم أن يشربوا من الأبوال والألبان؛ لأنهم مرضى، مع أن البول أصله نجس، فكأنه يقول: إنما أجاز لهم شرب بول البعير لكونهم مرضى ومضطرين لذلك، وهذا مذهب الشافعية، أي: أنهم يرون أن بول البعير وما يؤكل لحمه نجس.

وقال الحنابلة ومن وافقهم: إنما أجاز لهم شرب البول؛ لأن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، فأجاز لهم شرب البول لا من جهة المرض ولكن من جهة طهارة الذي يتداوى به.

فقول الشافعية: إن البول نجس وإنما جاز لهم شربه للتداوي، شددوا فيه في باب الطهارة، وخففوا في باب التداوي.

أما الحنابلة فقالوا: البول طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس، فخففوا في باب الطهارة، وشددوا في باب التداوي، وهذا من مرونة الشريعة! فقد تجد القول في مكان شديد ولكنه في مكان آخر يسر ورحمة، وقد تجده في موضع يسراً ورحمة، وفي موضع آخر شدة وابتلاء.

فالمقصود: أن الحنابلة رحمهم الله يقولون: البول طاهر وجاز لهم شربه لكونه طاهراً.

ونحتاج إلى منهج أصولي في الاستنباط حتى نعرف أي المذهبين أرجح، فهؤلاء يقولون: هم مرضى وجاز لهم التداوي به لكونها ضرورة، وهؤلاء يقولون: لا.

بل هو طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس على الأصل الذي قرروه: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فنريد أن نعرف الراجح من القولين.

القول الذي يقول: إن بول الإبل والبقر والغنم ونحوها مما يؤكل لحمه نجس هو قول الشافعية، فيقولون: لأن في الحديث وصفاً وهو قوله: (فأصابهم الجوى)، وفي رواية في الصحيح: (فاجتووا المدينة) أي: أصابهم الجوى، قالوا: فالوصف المذكور في الحديث -وهو الجوى والمرض- مشعر بالحكم وهو التخفيف والرخصة، هذا بالنسبة لمسلك الشافعية.

الحنابلة قالوا: قولنا أقوى وأرجح؛ لأننا وجدنا أدلة أخرى من السُّنة تدل على أن البول طاهر، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر على بعيره وطاف على بعيره، فلو كان بول البعير نجساً لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على البعير؛ لأنه إذا بال أصابه طشاش بوله، ولابد أن البعير يصيبه شيء من الطشاش أو يبقى شيء في الموضع، قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يصلي ويوتر ويطوف على البعير -وكلها عبادات تشترط لها الطهارة- يدل ذلك على الطهارة.

الشافعية يجيبون عن هذا ويقولون: إن هذا من باب الرخصة والتيسير وهو خارج عن الأصل، ويقولون: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل، فلو كان روث البعير طاهراً لما منع من الصلاة في معاطن الإبل.

الحنابلة يقولون: إنه منع عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة غير النجاسة، وهي كونها أماكن الشياطين، والإبل خلقت من شياطين كما ورد في بعض روايات السنن.

فالمقصود: أن أصح الأقوال وأقواها: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، فقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم بعيره، وطاف على البعير، وأوتر على البعير، وهذا كله ظاهر الدلالة على طهارته.

وأما بالنسبة للقول بأن هذه رخص فنقول: إنه أجاز الصلاة في مرابض الغنم، فلو كانت الفضلة نجسة لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مرابض الغنم، ولاشك أن أقوى القولين هو: القول بأن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهب الشافعية رحمة الله عليهم في أن فضلة ما يؤكل لحمه نجسة فيه من المشقة شيء كثير، ولذلك من أشق ما يكون إذا كانوا في المساجد وجاء الحمام والطير، فإنهم يعتبرون ذرقه نجساً، وبمجرد ما يصيب الثوب لابد أن يذهب ويغسل ثوبه، فيجدون من الحرج والمشقة ما الله به عليم، حتى إن بعض متأخريهم أفتى بأن ذرق الطيور والحمام في المساجد معفو عنه لمكان الحرج والمشقة، فإنه ربما يكون هناك زحام -كأيام الحج- فيقوم من بين الناس من أجل أن يغسل موضع النجاسة ويطهر المكان.

إذا تقرر هذا فإن أصح الأقوال: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويستنبط هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى الصلاة والطواف على ظهر البعير، وأجاز الصلاة في مرابض الغنم، ففهمنا من الصلاة على ظهر البعير أن فضلته طاهرة، وفهمنا من إجازة الصلاة في مرابض الغنم أن فضلتها طاهرة، ثم نستنبط معنى آخر للقياس ونقول: قد حكم صلوات الله وسلامه عليه بنجاسة لحم الحمر الأهلية لكونها محرمة الأكل، فإنه لما نزل تحريمها أمر بإكفاء القدور وقال: (إنها رجس) فحكم بكونها نجسة لما نزل تحريم اللحم، فأخذوا من هذا دليلاً -وهذا من أنفس ما يكون في الاستنباط- على نجاسته ونجاسة الفضلة تبعاً، وإذا ثبت هذا فنقول: الفاصل في الحكم بنجاسة الفضلات والخارج هو أنه إما أن يكون من المأذون بأكله أو غير مأذون بأكله، فإن كان من جنس ما أذن بأكله فهو طاهر، وإن كان من غير ما أذن بأكله فهو نجس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>