للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أقوال العلماء في طلاق الحائض]

قال رحمه الله: [وإن طلق من دخل بها في حيض أو طهر وطئ فيه فبدعة يقع وتسن رجعتها].

(وإن طلق من دخل بها في حيض) فلا يكفي أن تكون دخل بها، بل لا بد أن تكون حائضاً وفي الحيض، فإذاً: إذا طلق من دخل بها حال الحيض في حيض، أي: وقع طلاقه لها وهي في ظرف ووقت وزمان الحيض فإنه بدعة، فإذا وقع الطلاق حال الحيض فبإجماع العلماء أن الطلاق بدعة، ولكن هل يحكم بوقوعه أو لا يحكم بوقوعه؟ وجهان مشهوران لأهل العلم: جماهير العلماء وجماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة والظاهرية على أنه يقع الطلاق ويحتسب، واستدلوا بالأدلة الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة وبظواهر التنزيل التي دلت أولاً على أن الأصل فيمن طلق أن يمضي عليه طلاقه، فكل من تلفظ بالطلاق ظاهر القرآن أن زوجته تطلق منه، هذا من حيث الأصل، قالوا: والعمومات نصت على هذا، وقوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:١]، هذا من حيث الإثم وعدمه، وليس له علاقة من حيث الوقوع وعدم الوقوع، لورود الأدلة الأخرى التي تثبت الأصل بالإيقاع، الدليل الثاني: قضية ابن عمر، ففي قضية ابن عمر عدة أدلة تثبت أن الطلاق وقع، أولها: ما يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما صريحاً كما جاء في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتسبها له واحدة)، وهذا الحديث ذكره ابن وهب في مسنده وأشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو حديثٌ ثابت، ويرويه عن حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر.

ثانياً: أنه جاء من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مره فليراجعها)، فكلمة (ليراجعها): جاءت من كلامه، ومنطوق لفظه عليه الصلاة والسلام، والرجعة عرفٌ شرعي مبني على الطلاق، خاصةً وأن المسألة في الطلاق إذ قد يستخدم لفظ الرجعة في غير الطلاق إذا كان في غير الطلاق؛ أما في داخل الطلاق وفي مسائل الطلاق لا يقال رجعة إلا من طلاق (مره فليراجعها).

ثالثاً: أن ابن عمر رضي الله عنهما وهو صاحب القصة أدرى وأعلم بمضي الطلاق وعدمه؛ فإن ابن عمر نص على وقوع الطلاق وأفتى بذلك، فكان إذا جاءه السائل -كما في الصحيحين- يسأله عن امرأةٍ طلقها في الحيض أمضى عليه الطلاق واحتسبه، والراوي أدرى بما روى، خاصةً وأنه صاحب القصة، ناهيك عن ابن عمر الذي عرف بالتزام السنة وعدم خروجه عنها، وقد أُدِّب في طلاقه، فهو أعلم وأدرى بوقوع الطلاق وعدمه؛ ولذلك جاءت الألفاظ عنه عديدة تشير إلى الوقوع، منها ما هو صريح كما في قصة الرجل الذي طلق ثلاثاً في رواية الصحيحين، وجاء أيضاً عنه رضي الله عنه أنه لما سُئِل هل احتُسِبت الطلقة أو لم تحتسب كان يستغرب من السائل، ويقول: (فَمَهْ؟) أي: ماذا تظن، وفي روايةٍ: (ما لي إن عجزتُ واستحمقت؟) وهذا من فقه ابن عمر، يعني: هل تتصور شخصاً يقع في البدعة والمعصية ويطلق طلاقاً يخالف شرع الله أن لا يمضى عليه الطلاق؟ فمثله أليق بأن يزجر؛ ولذلك يقول له: فَمَهْ، يعني: ماذا تظن مع أني أقع في البدعة وأقع في المحظور ولا يمضي عليّ طلاقي؟! ففي الصحيحين أنه قال له: هل احتسبت؟ قال: فمه؟ وفي روايةٍ أخرى: (ما لي إن عجزت واستحمقت؟) أي: ما لي وما شأني وما المانع أن تنفذ عليّ طلقتي مع أني قد عجزت واستحمقت.

كذلك أيضاً جاء في الرواية الأخرى عن نافع وعن سعيد بن جبير وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين كلها تعضد هذا، وللشيخ ناصر الدين رحمه الله مبحث نفيس، من أنفس ما كتب في هذه المسألة في جمع الأحاديث ورواياتها وألفاظها وبيان صحيحها من ضعيفها في الجزء السابع من (إرواء الغليل)، وهو بحث في الحقيقة من أنفس ما جُمع في المرويات، في مسألة طلاق الحائض، وهل طلق ابن عمر أو لم يطلق، وقد خلص -رحمه الله- إلى أن السنة وقوعه، من حيث المرجحات التي تقوي الوقوع واحتساب الطلقة.

الأمر الأخير الذي يدل على وقوع الطلقة ما ذكرناه: أن الشخص إذا عصى الله ورسوله، وابتدع في شرع الله عز وجل وأحدث في دين الله عز وجل، وخالف ما أُمر به وتمرد على الله وعلى كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فخالفه، فإن الأليق به أن يزجر، وأن يعاقب، والأصل يقتضي أن مثله يؤاخذ بتطليقه.

وقال بعض العلماء -وينسب هذا القول إلى بعض العلماء- وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمةُ الله على الجميع: إن طلاق الحائض لا يقع ولا يمضي، واحتجوا برواية أبي الزبير محمد بن تدرس المكي عن ابن عمر أنه حضره وقد سأله السائل، فقال رضي الله عنه -أي: ابن عمر -: (فردها عليّ ولم يرها شيئاً)، أي لم ير الطلقة شيئاً، وهذه الرواية هي التي تُمسّك بها على أن طلاق الحائض لا يقع، وهذه الرواية قد أجاب عنها أئمة السلف كالإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة، ولأننا أمام روايات عديدة فيها ما يثبت مضي الطلاق، وفيها ما ينفي، فلا بد من معرفة الضوابط في ترجيح هذا على هذا، هل يرجح القول الذي يقول بنفوذ الطلاق، أو يرجح القول الذي يقول بعدم وقوع الطلاق، فعند النظر إلى المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: نجد أن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها)، هذا المرفوع الذي استدل به من قال بالإيقاع يصنف في المرجحات؛ لأن قول ابن عمر: (فردها عليّ ولم يرها)؛ دليل الأصحاب القول الثاني الذي لا يوقع الطلاق، وهذا ليس بشيءٍ مرفوعٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قول من قال بالوقوع أقوى ممن يقول بعدم الوقوع.

ثانياً: أن لفظة: (ردها عليّ، ولم يرها شيئاً) هذه تحتمل معنيين، كما يقول الإمام الشافعي،) لم يرها شيئاً)، أي: لم يرها شيئاً مصيباً للسنة، لا أنه لم يرها طلقة، والسبب في هذا: أن ابن عمر نفسه الذي قال كلمة: (ولم يرها شيئاً) يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في فتواه، ولا يتأتى منه أن يقصد أنه لم يطلقها، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها طلقة لما طلق ابن عمر رضي الله عنه وأفتى بالطلاق، فإذاً قوله: (لم يرها شيئاً)، تردد بين معنيين، وفي الأصول: أنه إذا تعارضت روايات صريحة لا تحتمل مع غيرها قدمت الصريحة، كما في قوله في بعض الروايات المرفوعة: (هي طلقة) وفي رواية الدارقطني: (احتسبت طلقةً واحدة).

فالرواية الصريحة بالاحتساب جاءت عن ابن عمر نفسه أنه يحتسبها ولا تحتمل، فقوله: (هي طلقة) و (احتسبت طلقة) و (اعتد بها) كما في الرواية عن سالم وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين روايات صريحة في الوقوع والاعتداد.

وقوله: (لم يرها شيئاً) متردد بين أن يقصد به عدم الوقوع وبين أن يقصد به عدم موافقة السنة، فلما ترددت بين المعنيين لم تقوَ على معارضة الصريح الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وبناءً على ذلك من حيث اللفظ رواية الوقوع أقوى من التي تنفي الوقوع.

ثالثاً: من ناحية أصولية؛ فإن ابن عمر رضي الله عنه الروايات عنه بالوقوع أكثر من الروايات عنه بعدم الوقوع، ولم يخالف إلا أبو الزبير مع أن هناك شاهداً له في رواية سعيد بن جبير رحمه الله؛ لكن كما يقول الإمام ابن القيم رحمةُ الله عليه في حديث القلتين حيث كان يرجح ويقوي بأصحاب ابن عمر فكان يرجح برواية نافع وسالم بن عبد الله؛ لأنهما أدرى وأعلم فـ سالم بن عبد الله بن عمر ونافع تلميذ ابن عمر مثل هذين لا يخفى عليهما، وهما من أوثق أصحاب ابن عمر وأعلم بفقه ابن عمر، حتى كانوا يقولون: فقه ابن عمر عند نافع والسلسلة الذهبية مالك عن نافع عن ابن عمر، فـ نافع له الشأن البعيد واليد الطولى لعلمه بقول صاحبه وهو ابن عمر، فيقدم إذا تعارض مع أبي الزبير مع أن أبا الزبير في الرواية إذا عنعن لا تقبل روايته، إذ هو مدلس، ونافع في مرتبة الرواية عن ابن عمر مقدم حتى ولو عنعن، فإنه الثقة الثبت، فمن حيث الإسناد إذا جئت تنظر إلى الروايات تجد أن من أثبت أقوى سنداً من الذي لم يثبت.

وكذلك أيضاً من حيث المتن؛ فإن الذي نص على احتساب الطلقة أثبت، والذي لم يرها شيئاً لم يثبت، والقاعدة: أن المثبت مقدمٌ على النافي، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ؛ ولذلك من حيث السنة ومن حيث الدليل يقوى القول الذي قال به جماهير السلف رحمةُ الله عليهم والأئمة الأربعة: أن طلاق الحائض واقع، وأن هذا المبتدع ينبغي أن يؤاخذ ببدعته، وأن يلزم بقوله وأن يشدد عليه ولا يخفف عليه، إضافةً إلى أن الأصل في الشرع إمضاء الطلاق واحتسابه عليه؛ لأن الدليل لم يقو على نفي ذلك الأصل.

قوله: (أو طهر وطئ فيه).

فإذا وطئها في الطهر وطلقها فطلاقه يكون للبدعة، ويستوي في ذلك أن يكون وطئاً مباحاً أو وطئاً محرماً

<<  <  ج:
ص:  >  >>