للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم طلاق من مات أو جن ولم يعرف مراده بلفظ الطلاق]

قال المصنف رحمه الله: [فإن مات أو جن أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق].

ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -وهذا من دقة الفقهاء الأولين وهي سمة من السمات العظيمة التي امتاز بها الفقه الإسلامي- كانوا لا يعطون الفتوى والحكم مجرداً عن الأثر، أي: حينما يقولون لك: إذا نوى فالحكم كذا، وإذا لم ينو فالحكم كذا، يعني: إذا أعطاك شيئاً يختلف بحسب النية؛ فإنك تعرف أن الحكم إذا نوى وقع، وإذا لم ينو لم يقع، فيرد

السؤال

إذا توفي أو جُنّ أو خرف أو أصابته عاهة ولم نستطع أن نعرف نيته، فهذا سؤالٌ وارد ومحتمل عقلاً؛ ولذلك نجد أن فرضيات الفقه في الفقه الإسلامي لم تأت من عبث ولا جاءت من فراغ.

فهذه الكتب كانت تؤلف وتكتب في أزمنة فيها جهابذة العلماء، أزمنة ما كان يخط رجلٌ في قرطاسه ولا يخط بقلمه إلا وقد عرض عقله على أئمة ودواوين العلم، فإما أن يكون بُهجةً للناظرين، وإما أن يكون في أسفل السافلين فلا يعتد به، فهذه الكتب حينما تجد فيها الفرضيات ما جاءت من فراغ، نعم قد يوجد التكلف في بعضها؛ لكن نحن نتكلم عن شيء له حاجة وشيء متصل بالأصل، فإذا تقرر أن الأصل الشرعي يفرق بين من نوى ومن لم ينو، ورسول الأمة عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، ففرق بين من نوى ومن لم ينو، فإذا جئت تقول: إن نوى وقع وإن لم ينو لم يقع؛ فإن الفرض العقلي يستلزم أن تبين؛ لأن الشريعة كاملة، ولا بد أن يأتيك شخص ويقول لك: والدي قال كذا، ونسينا ونسي أن يسأل ثم توفي، هل نحكم بأنه مات وزوجته في عصمته، أم أن والدتنا مطلقة؟ فهذا كله يحتاج إلى بيان، فالفرضيات ما جاءت من فراغ، وما كان أهل العلم ودواوين العلم ليضيعوا أوقاتهم وأعمارهم، وما كان أئمة الإسلام الذين عُرِفوا بالنصح لأتباعهم ومن أراد قراءة كتبهم ورضيهم حجةً بينهم وبين الله أن يضيعوا أعمارهم بالفرضيات عبثاً، فلم توضع هذه الفرضيات إلا بترتيب مبني على الأصول الشرعية، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان.

فلا يعرف قدر هؤلاء العلماء إلا من بُلي بالفتاوى، ومن وقف أمام المعضلات والمشكلات في القضاء يعرف عندها هذه النوازل والفرضيات، والله يعلم كم من مسائل نزلت على المفتي في ظلمة الليل وضياء النهار، فحار فيها عقله والتبس عليه أمره، حتى وجد فرضية من إمام متقدم، فأصبح يترحم عليه كلما ذكر أمره؛ لأنه وقع في كرب لا يعلمه إلا الله، فما زالت عنه كربته إلا بفضل الله وفي تلك الساعة الموفقة التي وجد فيها هذه المسألة العجيبة، حتى تجد بعضهم يقول: إنها مسألة تُعمل لها المطي، أي: إنها مسألة مشكلة، فلما يجدها الإنسان في وقتها وعند الحاجة إليها يحس بفضل العلماء، ويحس أنهم فعلاً قصدوا النصيحة لهذه الأمة.

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيهم عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علم، وأن يسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وأن يجعلهم في أعالي الدرجات، وأن يجمعنا بهم في نعيم الجنات.

المقصود من هذا التنبيه: أن المصنف رحمه الله قال: إن قال: أنت طالق بالأمس، ونوى وقع حالاً، ومفهومه أنه إذا لم ينو لم يقع وصرح بذلك المفهوم، وعليه يرد السؤال: إذا مات أو جُنّ قبل بيان مراده -ولا يُلتفت إلى مسألة الموت أو الجنون؛ لأنها أمثلة تذكر لأصل التعذر، وهو تعذر الاستبيان، فليست العبرة بالأمثلة، بل المهم أن تفهم الأصل؛ ولذلك لما تفهم الأصل يسهل عليك الاستحضار، وتكون عندك الملكة الفقهية- وقال هذا الكلام المحتمل الذي يختلط فيه الحكم بين الظاهر والباطن، وجب حينئذٍ أن ننظر إلى نيته، ولا يمكننا أن نطلع عليها إلا إذا عبر الإنسان عن مكنون نيته وخفي قلبه، وربما تعذر أن نعرف منه ذلك، إما أن يتعذر بموتٍ أو يتعذر بفقد النطق وعدم القدرة على الكتابة وعدم وجود الإشارة المفهمة، أو يتعذر بجنون، فالمجنون لا يستطيع أن يعبر عن مكنون نفسه، والميت لا نستطيع أن نسأله ويجيب، وكذلك أيضاً بالنسبة لمن خرس لسانه وهو لا يعرف الكتابة، ولا يستطيع أن يتكلم أو يشير إشارة مفهمة، فهذه أمثلة على الاستعجام وعدم إمكان الاستبيان.

قوله: (فإن مات) مثل: رجل جاء ورثته فقالوا: والدنا قال لأمنا: أنتِ طالقٌ بالأمس، ثم توفي ولم نجد من نسأله، ومضى على هذا الكلام سنة فهل من الممكن أن تخرج المرأة من عصمته، ونحكم بكونها قد طلقت ولا إرث لها، أو نحكم بكونها زوجة وهذا الكلام غير مؤثر؟ فبيّن رحمه الله قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ومعنى ذلك: أن الأصل أنها زوجته وشككنا في طلاقها، فنبقى على الأصل من أنه لم ينو الطلاق حالاً؛ لأنه أسنده إلى الأمس، وقوة اللفظ بالأمس توجب عدم وقوع الطلاق، فلا نحكم بكونها مطلقةً، والسيوطي في الأشباه والنظائر، ومثله ابن نجيم وعلماء القواعد الفقهية ذكروا في كتبهم أن من تفريعات قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان): استصحاب الزوجية إذا ترددت نيّة الطلاق بين أن يكون نوى الطلاق أو لم ينو، فنقول الأصل: أنه لم ينو، وعلى هذا لا تطلق عليه زوجته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>