للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تعليق الطلاق بإثبات الحمل]

قال رحمه الله تعالى: [فصلٌ: إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف] قبل أن ندخل في تفصيلات العلماء في مسألة الحمل نحب أن نمهد بتمهيد نستوعب فيه هذه المسائل.

أولاً: أقل الحمل: مدة زمانية لا يمكن أن يوجد الحمل في أقل منها، وأكثر الحمل: مدة زمانية الغالب بالعادة والتجربة أنه لا يجاوزها الحمل، وكلتا المسألتين تتفرع عليهما مسائل مهمة، وقد تتفرع عليها مسائل تتعلق بإنقاذ الأرواح كما سيأتي، فأقل الحمل ستة أشهر في قول جماهير العلماء رحمهم الله، فالمرأة لا تضع الحمل التام قبل الستة من حيث الأصل الغالب والذي دل عليه دليل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥] فأثبت سبحانه أن حمل الجنين وفطامه بعد الولادة من الرضاع يستغرق الجميع ثلاثين شهرا، يعني: سنتين ونصفاً إذ هي ثلاثون شهراً، ٢٤ شهراً للسنتين، و٦ أشهر لنصف سنة، فنصت الآية على أن الحمل مع الرضاع والفطام من الرضاع يستغرق ثلاثين شهراً، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:٢٣٣].

وانظر إلى جمال هذا القرآن وجلاله وكماله وعظمته وما أودع الله فيه من الحكم والأحكام، فالآية تأتي في مسائل النفقات على المرضعات، وإذا هي تتعلق بمسائل الحمل، فانظر كيف يرتبط القرآن كله بعضه ببعض، ولذلك استنبط علي رضي الله عنه من هذه الآية أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه إذا كان الرضاع له سنتان من ثلاثين شهراً فما يبقى إلا ستة أشهر، فإذا ثبت أن أقل الحمل ستة أشهر تفرع عن ذلك مسائل كثيرة، منها: لو أن رجلاً تزوج امرأة، ودخل عليها ثم توفي عنها، فاعتدت المرأة عدة الوفاة التي هي الحداد، وبعد أن تمت لها العدة جاء رجل ونكحها، فولدت لأربعة أشهر، فإنه يكون ولداً للزوج الأول وليس ولداً للزوج الثاني، على تفصيل في المسائل؛ لأنه لا يمكن نسبته إلى الماء الثاني، ولا بد بعد جماع الثاني أن نحسب الستة الأشهر، فما وقع من حملٍ قبل الستة الأشهر فهو منسوب للماء الأول من حيث الأصل، وهكذا مسألة أكثر الحمل، تتفرع عليها مسائل حتى في مسألة الإمكان ودفع الشبهة بزنا المرأة، ولذلك قالوا عن مالك رحمه الله: إنه حملت به أمه أربع سنين، وقالوا: هذا أكثر ما وجد في أقصى الحمل ولذلك يقولون: قد يعلق الجنين ويتأخر وتضعه أمه بعد طول زمان، ومن أعجب ما ذكروه من القصص المشهورة عن عمر رضي الله عنه أن امرأة تزوجها رجل ودخل بها ثم توفي عنها ثم اعتدت عدة الوفاة، وبعد مضي المدة تزوجها رجلٌ ثانٍ، فوضعت الولد لأربعة أشهر أو لثلاثة أشهر، والمرأة معروفة بالصلاح، ومن بيت صالح، ولا يعرف عنها أي ريبة فهي مستقيمة صالحة، فاحتار عمر رضي الله عنه في أمرها، فجمع المهاجرين، فأفتوا أن هذا زنا وأنها ترجم، وجمع الأنصار وأفتوا أنها ترجم؛ لأنها اعتدت عدة الوفاة ومضى زمن إمكان الحمل وبعد ذلك ولدت، ولا يمكن نسبته لزوجها الأول فيما نظره الصحابة، وكان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً فإذا أعياه الأمر عند الرجال جمع النساء، فلما وجدهم مجمعين على أنها ترجم -وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الحمل دليل على الزنا، كما في صحيح البخاري عنه في القصة المشهورة في آية الرجم- جمع النساء فقامت امرأة عجوز وقالت: إن هذه المرأة علقت من زوجها الأول، ولما أصيبت بالحزن والفاجعة ركن الجنين في رحمها، فلما تزوجت الثاني انتشت وانتشى الفرج بماء الثاني وجماع الثاني، فولدته، فحمد الله عمر أنه لم يرجم المرأة، وعمل بقولها، ولذا قال العلماء: قد يعلق الجنين ويتأخر، ومن الأطباء المتأخرين من يؤكد هذا ويعلل ذلك بضعف الرحم وغير ذلك من الأمور التي تؤثر في وقت وضع الحمل، فمسألة أقل الحمل وأكثر الحمل مهمة جداً تتفرع عليها مسائل في الطلاق كما يذكره المصنف رحمه الله، وتتفرع عليها مسائل في الحقوق، مثل مسألة شق بطن المرأة إذا كان في بطنها جنين، فلو توفيت وهي حامل وفي بطنها جنين فهل نشق بطنها أو لا نشقه، إن كان الجنين تمت له ستة أشهر فجمهور العلماء على أنه يشق بطنها ويستخرج الجنين، وأنه إذا لم تتم له ستة أشهر فلا يشق بطنها، فهذه كلها من المسائل المترتبة على مسألة أقل الحمل وأكثره.

فقبل أن ندخل في تعليق الطلاق على الحمل لا بد أن يُعلم ما هو أقل الحمل وأكثر الحمل، بحيث يمكن أن ننسب هذا الحمل لكونه وقع بعد الشرط أو قبل الشرط، فالرجل إذا علّق الطلاق على وجود الحمل فله طريقتان: الطريقة الأولى: يعلق الطلاق إن ثبت الحمل، فيقول لزوجه: أنت طالقٌ إن كنت حاملاً، فعلق الطلاق على وجه الإثبات، وأثبت الطلاق بثبوت الحمل، فإذا ثبت أنها حامل حكمنا بالطلاق، وإذا ثبت أنها غير حامل حكمنا بعدم وقوع الطلاق، ومن قبل لم يكن عندهم من الآلات والوسائل ما يبين حمل المرأة من عدمه، ولربما انتفخ بطن المرأة بمرض وعلة، فيظن أنها حامل، فلا بد من معرفة بعض الضوابط: ضابط الزمان كما ذكرنا أقل الحمل وأكثر الحمل، وضابط استبراء الرحم، فالمرأة إذا حاضت بعد ذلك القول دل ذلك على أنها ليست بحامل فلا يقع الطلاق عند من يقول: إن الحامل لا تحيض؛ لأن الفرج ينسد بالحمل ويخرج الدم بعد النفاس والولادة.

فيقول لها: أنت طالق إن لم تكوني حاملاً، وهذا هو النوع الثاني من الصيغ، الأول: صيغة الإثبات والثاني: صيغة النفي، فمعنى ذلك: أنه إذا وجد الحمل فلا طلاق، وإن لم يوجد الحمل وكانت بريئة وخُلُواً من الحمل فإنها طالق، فإذاً: نحتاج إلى معرفة هل هي حامل أم ليست بحامل؟ الطريقة الثانية: يعلق الطلاق على نوع الحمل، هل هو من الذكور أو من الإناث فيقول مثلاً: أنت طالقٌ طلقة واحدة إن كان حملك ذكراً وأنت طالقٌ طلقتين إن كان حملك أنثى، فعند ذلك لا بد أن نعرف ما الذي في بطنها، هل هو ذكر أم هي أنثى؟ ولربما خرج اثنان ذكر وأنثى، ولربما خرجت بنتان، ولربما خرج ذكران.

ثم تأتينا مسألة الولادة وفيها مشكلة؛ لأنها إذا ولدت الأول صارت مطلقة، ثم إذا جاء الثاني فبمجرد وضع الثاني تصبح أجنبية، لأنها إذا طلقت صارت رجعية، إذا كان طلقة واحدة، فإذا جاء الحمل الثاني ووضعت فإن الطلاق الذي علق على الحمل الثاني لا يقع؛ لأنها قد خرجت من عدتها وأصبحت أجنبية بوضعه، فيختلف الحمل وتختلف المسائل بين الحمل في نوعه، وبين الحمل في خروجه، فنوع العلماء بين مسائل الحمل كحمل، وبين مسائل الولادة كولادة، فعندنا تعليق بالحمل، وتعليق بالولادة.

قال رحمه الله: (إذا علقه بالحمل فولدت في أقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف): إذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، إن قال هذا الكلام في أول محرم من هذه السنة فإذا وضعت ما في بطنها قبل تمام ستة أشهر فإننا تأكد أنها كانت أثناء التلفظ حاملاً، فمثلاً: وضعت الجنين في ربيع الثاني، فنتأكد بأن الجنين هذا لا يمكن أن يخرج بهذه الصفة، ولا يكون حملاً كاملاً إلا ببلوغ ستة أشهر، وإذا ثبت أن عمره ستة أشهر فإنك على يقين أنه أثناء الكلام كانت المرأة حاملاً، وهو يقول: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فأثبت الطلاق بثبوت الحمل، ويثبت الحمل إذا ثبت الزمان الذي يدل على وجوده.

إذاً: إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق فولدت لدون ستة أشهر فقد تحققنا أنه أثناء تلفظه كانت المرأة حاملاً وبينه وبين الله أنه طلق امرأته إن كانت حاملاً في تلك الساعة، ولو أنها ولدت بعد الستة أشهر، مثلاً: قال لها هذا الكلام في أول محرم، وولدت في رمضان وهذا بعد الستة الأشهر قطعاً، فحينئذٍ يرد الإشكال هل كانت أثناء كلامه حاملاً أو لا، هذا يحتاج إلى تثبت، فنسأل: هل وقع جماعٌ بعد قوله: إن كنت حاملاً، فإن كان جامعها بعد محرم كأن يكون جامعها في ربيع أو جامعها في ربيع الثاني، نقول مثلاً: جامعها في صفر، قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق في أول محرم، ثم في صفر جامعها، وولدت في رمضان فإننا نقع بين احتمالين، إما أن نقول: إنها حملت بالجماع الثاني، وحينئذٍ لا طلاق؛ لأنه وقع الحمل بعد الشرط والشرط متعلقٌ بأن تكون حاملاً في محرم، فلما جامعها بعد محرم وولدت في رمضان والمدة مدة حمل، فالقاعدة: أننا ننسب الحكم إلى أقرب حادث.

ومعنى ذلك: أنه إذا كان عندك حادثان: قريب وبعيد، واليقين للقريب تنسب للقريب؛ لأنه ما دام مضت ستة أشهر بعد محرم، ولم تلد، ووضعت بعد ستة أشهر من الجماع الثاني فالغالب على الظن أنه من الجماع الثاني، وهذا لقاعدة: (أن الحكم ينسب لأقرب حادث) ومن فروع هذه القاعدة: إذا نام نومتين، أو ثلاث نومات، نام قبل الفجر، وصلى الفجر ونام بعد الفجر، وصلى الضحى ونام بعد الضحى، وصلى الظهر ونام بعد الظهر، ولم يستيقظ إلا على صلاة العصر ووجد أثر المني في ثيابه، فهل نقول: إنه أمنى في النومة الأخيرة، فلا يلزمه إلا إعادة العصر إن كان صلى، أو هو النوم الذي في الضحى فيلزمه إعادة صلاة الظهر والعصر إن كان قد رآه بعد العصر، أو للنوم الذي بعد الفجر للحكم كذلك، أو للنوم قبل الفجر فيعيد الفجر والظهر والعصر جميعاً؟ فننسب ذلك لأقرب حادث؛ لأنه ما دام عندنا عدة احتمالات فإننا نأخذ باليقين، فنحن لا نشك أنه في آخر نومة كان جنباً، ونشك فيما قبل ذلك، والأصل أنه طاهر، وكذلك هنا هل ننسب الحكم لأقرب جماع يمكن أن يتخلق منه الولد، أو ننسبه لأبعد جماع؟ أصبح عندنا أصلان، واليقين أنها زوجته، وتبقى العصمة كما هي؛ للقاعدة التي تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) فإن قلت: إن هذا الولد تخلق بجماعٍ قبل الجماع الثاني، وكان موجوداً أثناء الشرط فتطلق المرأة، فنلغي اليقين من كونها زوجة، فهذا خلاف الأصل، فتقول: أقرب حادث هو الجماع الأخير الذي هو قبل وضع الجنين بستة أشهر، ولا ننسب الولد للجماع قبل الشرط، وبناءً على ذلك: لا يحكم بكونها طالقاً، وهذا على أصح أقوال العلماء -رحمهم الله- وهو شبه مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماع بعد قوله إن كنت حاملاً فأنت طالق ومضت أكث

<<  <  ج:
ص:  >  >>