للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الإعجاز العلمي والتعسف في فهم القرآن]

ومن التأويل المذموم: إسقاط آيات من كتاب الله عز وجل على النظريات التي لا أصل لها، والتلاعب بنصوص كتاب الله عز وجل، وتكلف الإعجاز فيها بشيء لا يمت إلى هدي الكتاب والسنة ولا إلى هدي السلف -في تفسير كتاب الله عز وجل- بصلة.

فمثل هذا لا يجوز، سواء كان في العلوم الطبيعية من طبٍ وهندسة أو في غيرها.

وقد سمعت بعض من ينتسب إلى الإعجاز يقول في قوله الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٩] يقول: إن هذا في صعود القمر، ولا يشك مسلم أن هذا تلاعب بكتاب الله؛ لأن الله أقسم فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٩ - ١٩] أي: (والله لتمرن) يقسم الله جل جلاله أنكم لتمرن يا معشر الكفار، ويا معشر المؤمنين، بأحوال الآخرة طبقاً عن طبق، وطبقاً بعد طبق، ستمرون بالقبور وعرصات القيامة، فهذا الأمر هو الذي وقعت فيه الخصومة، وهو الذي كذب به المشركون وردوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به آيات القرآن، فمن قال: (المراد بها صعود القمر لأننا ما نصعد القمر إلا إذا اتسق) فقد تلاعب بكتاب الله عز وجل وقال على الله بغير علم.

فالحذر الحذر من مزالق الشيطان فقد يوقعك في القول على الله بدون علمٍ وبدون حجة.

وينبغي لكل مسلم أن لا يقبل مثل هذه التفاسير، بل يعتمد على تفسير الأئمة والعلماء، وخاصة أئمة السلف؛ لأن كتاب الله فسر، ومرت هذه القرون كلها وكتاب الله يفسر بهذا التفسير البين الواضح النير، الذي لا إشكال فيه، فاتبع سلفك الصالح، ودع الأمور المحدثات.

ثم لو أننا رأينا نظرية من النظريات فجربنا كتاب الله عليها، ولوينا نصوص الكتاب لتوافق هذه النظرية، ثم تبين بعد عشرات السنين أنها خطأ!! ماذا يقول الناس؟ وماذا يقال عن كتاب الله عز وجل؟ نحن نعلم علم اليقين أن الله سيري عباده آياته، فلا نتأول كتاب الله بمثل هذه التأويلات، أما إن وجدت أدلة واضحة مثل علوم الأجنة وعلوم الطب التي وجد أنها تدل عليها نصوص الكتاب والسنة فنفرح بهذا؛ لأنه عزٌّ وحجة ودلالة على صحة هذا الدين وصدقه، ولكن لا نبالغ، فإن الغلو في الأشياء يوجب الشر؛ والله يقول: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:١٧١] فلا نبالغ في هذه الأمور، ولا نتكلف التأويل.

بعض هؤلاء يتبجح فيرد كلام العلماء الأوائل، ويقول: كانوا يفهمون كذا وكذا، كأنه يسخر بهم ويتهكم بهم، حتى أني سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يتهكم على تفسير حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فلا بارك الله في من تهجم عليه، فينبغي الحذر من مثل هذه الأمور.

وما كان محتملاً فعلينا أن نقول: إن هذا يحتمل كذا، فنورده بكل أدب؛ لأنه لا يوجد نص يدل عليه، والسلف لهم فهمهم وهذا الشيء الذي نورده إذا كان نص كتاب الله يحتمله فينبغي أن نتأدب مع السلف ونبين ما يحتمله التأويل والنظر، ولكن دون أن نغلو أو نبالغ، فإن الغلو لا خير فيه، وكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، وأعداء الإسلام يريدون منا مثل هذا، يريدون أن نشكك في السلف الأوائل، ومعلوم أنه إذا تكلم أحد بمسألة في الإعجاز من أجل أن يقنع كافراً، فقد لا يقتنع الكافر حتى يلج الجمل في سم الخياط.

فلماذا يطعن في أئمة السلف؟! وما هي الفائدة؟! بل إن الكافر الذي تجاوره قد يعجب بهذا الطعن فيحاول أن يخرج شيئاً جديداً ويدعي به خطأ الأوائل، فمن كان يظن أنه قد أحسن في هذا، فالواقع أنه قد أساء.

فالحذر كل الحذر من هذه التأويلات! والحذر الحذر من التهكم على سلف الأمة، فالسلف والعلماء رحمهم الله هم أعلم الناس بتفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بمواطن التنزيل، وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلسان العرب ومدلولات هذا اللسان.

فعلينا أن نأخذ الحيطة من هذه التأويلات والتفسيرات الجديدة، ونحن لا نقول بردها كلها ولا نقول بقبولها كلها، وإنما نعرضها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شيء أسفر كتابُ الله عليه دليلاً قبلناه.

ثم الله يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:٥٣] ما قال: في القرآن بل قال: (فِي الآفَاقِ)، وأراهم الله آياته، وانظر كيف ينظرون إلى الآيات من فوقهم ومن تحتهم، وعن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وفي أنفسهم، ومع ذلك لم تزدهم إلا إعراضاً وصدوداً، وهذه هي الحقيقة التي أثبتها كتاب الله عز وجل، فلماذا نلهث وراء هؤلاء، بل ونتكلف في ذلك حتى نرد على سلف الأمة وأئمة الإسلام على حساب أمثال هؤلاء الذين لا يدخلون الإسلام إلا بإعجاز، وقد يخرجون منه بأدنى شبهة؟! يقول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:١١] بعض من يتأثر بهذه التأويلات ويبالغ فيها إذا أصابته أقل فتنة انقلب على وجهه: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:١١].

فالواجب الحذر من التأويلات في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نلتزم بمنهج السلف والصحابة، فإذا سألك الله يوم القيامة: لم فهمت هذه الآية على هذا الوجه؟ قلت: فهمت هذه الآية بآية أخرى -لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً- أو بقول رسولك عليه الصلاة والسلام، أو بقول حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له صلى الله عليه وسلم بفهم كتاب الله عز وجل، وفُتِح عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله ثقة يرضى ويؤتمن على دين الله عز وجل.

فالمقصود: أن التأويلات المذمومة ترد سواء كانت في العلوم الشرعية أو كانت في المعارف الطبيعية، والتأويل صرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر، والمعنى الآخر معروف بالمعنى الباطن، وعند الكلام يقصدون الظاهر ولا يقصدون الباطن إلا بقرينة، يقول مثلاً: رأيت أسداً فوق جمل، هل الأسد يركب على الجمل؟ لا، فنفهم من هذا أنه رأى رجلاً شجاعاً وصفه بأنه أسد، أو يقول: أتيت المسجد فاغترفت من بحر، ويقصد عالماً على منهج الكتاب والسنة رآه بحراً، علمه غزير فاغترف منه، أو يقول: أتيت فلاناً وسألته حاجتي فوجدته بئراً لا تكدره الدلاء، والعرب عندهم أن البئر إذا كان ماؤها قليلاً ونُزِح منها تغيرت، لكن إذا كان ماؤها كثيراً لم تتغير، ولو اغترف منها ما اغترف يبقى الماء صافياً من كثرته، فالكريم الجواد الذي ماله لا يقطعه عن أحد، إذا جئته وسألته المرة الأولى، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، ثم المرة الرابعة، يفرح بمجيئك؛ لأنه يحب الإحسان، ولا يعرف قبض يديه، لكن البخيل إذا جئته لا تنال المرة الأولى منه إلا بشق الأنفس، وأما المرة الثانية فيقفل بابه، فلذلك تعبر العرب عن هذا المعنى بالبئر الذي لا تكدره الدلاء، يعني: أنه رجلٌ يعطي ويعطي ولا تؤذيه كثرة المسألة، ولا كثرة الإلحاح، وذلك من كرمه، فلما تقول: أتيت فلاناً فوجدته بئراً! هل الرجل يصير بئراً؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، لأنك لا تريد بئراً حقيقياً ولا تريد دلواً حقيقياً وإنما تريد معنى باطناً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>