للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم العدول عن القرعة عند الشك في الطلاق إلى الاختيار بحسن]

السؤال

هل للقاضي أن يعدل عن القرعة ويسأل عن أحسنهما عشرة مع زوجها فيبقيها ويحكم بطلاق الأخرى أثابكم الله؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد الأحكام الشرعية لا تدخلها العواطف والاحتمالات والآراء والأهواء، والقاضي إذا رُفعت إليه القضية لا يجتهد من عند نفسه، إنما هو ملزمٌ شرعاً أن يحكم بالدليل الشرعي، والدليل الشرعي الموجود: أن من طلق زوجته طلاقاً واضحاً بيناً ينفذ عليه الطلاق، ومن طلق زوجته طلاقاً محتملاً متردداً رجعنا إلى الأصول الشرعية في تعيين المبهمات والمجهولات، وليست أمور الشريعة محل تخرصات وتحكيم للهوى، وليس لكل شخص أو طالب علم أن يقترح من عنده؛ لأن أمور الشرع عظيمة مبنية على أسس، والفتوى إذا لم تبنَ على الشريعة فإنها تهوي بصاحبها كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لأنه تقول على الله بدون علم.

والشريعة ليس فيها عواطف ولا مجاملات: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:٥٢]، هذا الكتاب الذي فُصّل على علم هدىً ورحمة مبني على أصول لا يستطيع القاضي أن يجاوزها شعرة، فهذه امرأة وهذا زوج، فلا تحل العصمة ولا تزيلها من زوجها إلا بدليل، ولا تقول: والله أخلاقها طيبة، فكونها طيبة أو تؤذي أو لا تؤذي لا دخل لها.

وهناك أمرٌ يسمى بالتعليم، والأوصاف المناسبة للتعليم، فهذه المسألة ليس لها علاقة، فقد يطلق الرجل زوجته وهي من أحسن الناس أخلاقاً، لكنها لا تريحه بالفراش ويريد أن يعف نفسه عن الحرام، وليست قضية جمال الأخلاق أو حسن العشرة مؤثرة في مسألة الطلاق من كل وجه؛ لأنه قد يقع الطلاق لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، فقد يفارق بلدها ويرى أنها لو جاءت معه لتعذبت، وربما رأى أنها تتحمل مشاق من أجله وأراد أن يريحها من كل هذه الأمور؛ فهذا ليس له علاقة بمسألة كونها حسنة العشرة أو لا.

وأحب في هذه المناسبة أن ننبه ونذكر أنفسنا وإخواننا أن مسائل الشرع مسائل عظيمة، خاصة في هذا الزمان؛ فقد يتكلم الرجل في الفتوى ويبنيها على النص من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بنا نفاجأ بشخص يقول: عندي مداخلة، لي وجهة رأي، اسمح لي لو تفضلت لو تكرمت! ويأتي بأمور ما أنزل الله بها من سلطان: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:٢٣].

إذا وقفت بين يدي الله قاضياً أفتيت بالقرعة فقلت: يا رب جاءنا في كتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فإنه أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فتستند إلى رأيك واجتهادك.

واعلم أن الدين ليس فيه وجهة نظر ومداخلات، فهذه أمور دخيلة دخلت على الأمة، فشتتت شملها، وفرقت آراءها فأصابها الخور والضعف حتى في العلم والعلماء، فذهبت كرامة العلماء وكرامة العلم بسبب إدخال العواطف والآراء الشخصية، وقل أن تجد عالماً يتكلم في مجمع أو مناسبة إلا وجدت من يعقب عليه، ونرجو من الله تعالى أن يجعل هذا رفعة لدرجة العلماء ومقامهم في الدنيا؛ لأن هذا من غربة الإسلام؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ).

أين مكانة العلماء فينا، كانوا إذا تكلموا أنصت الناس إلى كلامهم، وإذا أمروا ائتمر الناس بأمرهم، وإذا نهوا انتهى الناس عما نهوا عنه، أين مكانة العلماء من القبول والتكريم، يقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:٦٥]، هذه شهادة من الله من فوق سبع سماوات: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥]، وليس وحدها الرجوع إلى العلماء.

{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:٦٥] (نكرة) أي: أياً كان هذا الحرج، (ليس هناك: عندي وجهة نظر، ولا عندي مداخلة، ولا اسمح لي).

بل تسمع وتطيع، تقول: سمعنا وأطعنا، وتقبل من العالم ما دام أنه عالم رباني يقول بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الأيام نزعت الثقة من العلماء وذهبت مكانتهم، وبعض هذه المداخلات تُذهب هيبة العلم ومكانته وتسلط السفهاء على العلماء.

وإذا كان المداخلة أو وجهة الرأي من طالب علم عنده عقلية أو ذكاء؛ فقد يأتي بعده من ليس عنده عقلية ولا ذكاء وإذا كان الذي يحاور العلماء عنده وجهة نظر ورزقه الله شيئاً من الأدب، فقد يأتي من لا أدب عنده، فهذا يجرئ الناس والرعاع على العلماء رحمهم الله، ولم نكن نعرف أن أحداً ينتقد على عالم رأياً أو هوى، فقد كان طالب العلم إذا جلس في مجلس العلم يسمع ويطيع ويحمل العلم ويقول: هذا الذي سمعت وهذا الذي بلغني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، الأمانة والضبط، وليس في العلم رأي، ومن أنت حتى تعطي رأيك أو اجتهادك؟ فهذا الزمان زمان غربة العلماء، وإبداء الآراء حتى من طلاب العلم، وأنا لا أقصد السائل، فقد يكون السائل تأثر بغيره، فلا بد أن نتربى على احترام العلم واحترام العلماء، ولا يحسن لطالب العلم أن يفتح مثل هذا، وإذا وجدت شيئاً مبنياً على الكتاب والسنة فلا تقل: على القاضي أن يفعل أو لا، فلو كنت تعرف مكانة القاضي وتعرف أن القاضي قد نصّب نفسه حكماً بين الناس، ووقف على شفير نار جهنم فإما إلى جنةٍ وإما إلى نار، ما تكلمت؛ فهذا أمر ليس بالسهل.

ولذلك ننبه على مثل هذه الأمور، لأنها مما عمت بها البلوى، فذهبت مكانة العلماء والعلم، والآن أبسط ما تراه -وقد يكون بسيطاً في نظر الناس لكنه عند الله عظيم- أنه عندما يطرح موضوع الصبر، أو الحلم أو موضوع من الموضوعات، كلٌّ يدلي برأي وكل يدلي بوجهة نظر، وقد يكون مسموعاً أمام الناس، وهذا ينزع الثقة من العلماء؛ لأنه إذا كان كل من هب ودبّ عنده مداخلة، وكل من هب ودب يكتب كلمتين ويأتي يصيح بها أمام الناس، وكل من هب ودب يستطيع أن يدلي بوجهة نظره؛ ضاعت مكانة العلماء؛ لأنه الناس يسمعون كلاماً كثيراً، وإذا سمعوا كلاماً كثيراً فلا يجدون العلماء والنور الرباني.

وقد يخدعهم بليغ اللسان عذب البيان ويصرفهم عمن هو أتقى لله وأورع، وكم من عالم ورعٍ تقي نقي لا يقول الكلام إلا وقد عده لا تنصرف إليه الأعين ولا تصغي له الآذان؛ ولكنه عند الله ذو شأن.

فهذه أمور تقوم على التسليم للشريعة، تقوم على الأدب والتسليم والخوف من الله، ويجب على طالب العلم أن يتعود أن لا يقول على الله بدون علم، وأن يتعود الحرص على الوقوف عند الكتاب والسنة، هذا هو هدي العلماء، ولا يمكن لطالب العلم أن يبارك له في علمه إلا إذا أقام نفسه على التسليم طالباً، ونفع الأمة معلماً، إذا وفقه الله عز وجل للتسليم خرج للناس وعاء من أوعية العلم.

وكان بعض العلماء يقول: إن الوحي كالماء الصافي من الكدر.

أي: إذا كان طالب العلم يملأ قلبه بالوحي صار هو الوعاء الذي يُملأ بالماء الصافي، يأتي بعد فترة وقد وعى وفتح الله عز وجل عليه فلا يتكلم ولا ينضح إلا بماء صافٍ من الكدر، والعكس، فالطالب الذي يبتدئ طلب العلم بالمداخلات والآراء، ولماذا لا يقول القاضي كذا! ولماذا لا تقولوا كذا، وهل وضعتم كيت كذا، ولماذا لم يشترط كذا، فهذا يدخل على نفسه الوساوس، وربما لم يحسن العالم الجواب ويكون ما قاله باطلاً فتقع في قلبه الشبهة؛ لأنه ما تأدب مع العلم، وقد تبقى في قلبه هذه الشبهة حتى يصير عالماً ويبثها بين الناس، فيحمل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين.

العلم أن يتعلم الإنسان الانضباط والخوف والورع، فمن كان على ورعٍ فقد علم وعرف من هو ربه، وإذا كان طالب العلم لا يعرف من هو الرب الذي يتكلم عنه، وما هو الشرع الذي يدين الله عز وجل به، ويريد أن يلقى الله عز وجل به، فهذا على هلاك وحسرة إذا كان لا يعرف هذا كله، فطوبى ثم طوبى لمن رزقه الله البصيرة والأدب مع العلم والعلماء، وأنصت وعدل، ورد الأمر إلى أهله، وسلم بالقول إذا صدر عمن هو أهل.

هذا الذي يسعنا، والله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (العلماء ورثة الأنبياء)، فكما أن الأنبياء لا نرد عليهم، فلا نرد على العلماء، ونحن لا نقول: إن العلماء معصومون، ولا نقول إن العلماء والجهال على مرتبة واحدة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩]، فالعلماء ليسوا بمعصومين، ولكن قد يرد عالم على عالم، أما طالب العلم فإنه يسلم للعالم ويتبع؛ لأن هذا هو الاهتداء الذي سارت عليه الأمة وبه استقام أمرها.

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>