للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الإشهاد على الرجعة]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فقد تقدم أن رجعة الزوجة تكون بالقول والفعل، وبيّنا أن اللفظ الذي يتلفظ به الزوج لكي يرتجع زوجته إما أن يكون صريحاً كقوله: راجعت زوجتي، أو يكون مختلفاً في كونه صريحاً ملحقاً بالصريح عند بعض العلماء كقوله: رددت زوجتي، أو أمسكت زوجتي.

فاللفظ الصريح المتفق عليه: راجعت، وارتجعت، وأما بالنسبة لـ (رددت وأمسكت) ففيهما الوجهان عن العلماء رحمهم الله.

وبيّن المصنف رحمه الله أن الرجعة تكون بما دل عليها في القول سواء كان صريحاً أو كناية، إلا أن الكناية كقول الرجل: أنت مني كحالك من قبل، يحتمل الأمرين: يحتمل: كحالك من قبل الطلاق فأنت زوجة لي الآن، وأرجعتك من طلاقي.

ويحتمل أن يكون مراده أن الحال باق كما هو، أي: لا زلت أكرهك ولا زلت مطلقة مني، فأصبح متردداً بين الأمرين فلا بد من نية تميز.

وقد تقدم معنا قول العلماء: إن الأمور بمقاصدها، والنيات تميز الأشياء المحتملة، فلما كان اللفظ محتملاً ميزته النية في الكنايات.

وقوله رحمه الله: [لا نكحتها] فالنكاح لا علاقة له بالرجعة، ومن هنا لا يدل على الارتجاع لا صراحة ولا كناية، فلو قال: نكحتك.

فإن هذا لا يدل على الرجعة؛ لأن إنشاء العقود ليس كاستدامتها، فالرجعة استدامة للنكاح، والنكاح ابتداء للعقد من جديد، وحينئذٍ فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، فلا يعتبر قوله: (نكحتك) ارتجاعاً لزوجته.

فقوله: [بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه، لا نكحتها ونحوه].

قد تقدم أن لفظ النكاح لا يدل على الرجعة صراحة ولا ضمناً.

ثم قال رحمه الله: [ويسن الإشهاد].

تقدم أن الإشهاد على الرجعة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله: فمنهم من قال: الإشهاد على الرجعة سنة، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.

ومنهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين: منهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب لا تصح الرجعة إلا به، فجعله شرطاً في صحة الرجعة، فلو أنه ارتجع زوجته ولم يشهد لم تصح رجعته.

مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: راجعت زوجتي، ثم توفي، ولم يكن هناك من شهد أو لم يكن هناك شهود ولم يستشهد على رجعته، فعلى القول باشتراط الإشهاد فإن الرجعة لا تثبت، وتصبح لو خرجت من عدتها أجنبية إذا لم يقع الإشهاد قبل خروجها من العدة، فلو كان خروجها من العدة بمغيب شمس يوم الأحد وقال: راجعت زوجتي قبل أن تغيب الشمس بلحظة، ثم توفي بعد مغيب الشمس قبل أن يشهد، فإنها تكون قد خرجت من عدتها قبل وفاته، فتصبح أجنبية لا ترثه في هذه الحالة، ولا يرثها أيضاً لو توفيت هي؛ لأنه لم يقع إشهاد على الرجعة قبل الخروج من العدة.

إذاً لا بد من الإشهاد على الرجعة عند الظاهرية، ويرون أنه شرط في صحة الرجعة.

ومن أهل العلم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب ولكنه ليس شرطاً في صحتها، فإنه لو أشهد صحت رجعته، وإذا لم يشهد فإننا نحكم بأنه آثم ورجعته صحيحة، ولكن يعتبر آثماً إذا تيسر له الإشهاد ولم يشهد.

واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:٢] ووجه الدلالة: أن الله أمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر للوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.

ودليل جمهور العلماء على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢] فجاء بالأوامر في سياق واحد، ومن المعلوم أن الإمساك في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:٢] لي واجباً بالإجماع، ليس واجباً، فليس بواجب أن تمسك الزوجة إذا طلقتها، وليس بواجب على من طلق زوجه رجعية أن يمسك؛ لأن له أن يتركها حتى تخرج من عدتها وتصبح أجنبية.

وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:٢] ليس بواجب أن يتركها حتى تخرج من عدتها، وإنما الأمر للتخيير، أي: إن شئت فأمسك، فإن أمسكت فبمعروف، وإن شئت ففارق فإن فارقت فبمعروف، ثم أشهد على ذلك، فكما أن الأوامر الأولى للاستحباب، فكذلك أمره بالإشهاد يكون للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.

ثم الدليل الثاني على عدم وجوب الرجعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر حينما أخبره أن ابنه عبد الله رضي الله عنه طلق امرأته في الحيض: (مره فليراجعها) ولم يأمره بإشهاد على الرجعة، فدل على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب.

ثم إن الأصل عدم الوجوب حتى يدل الدليل على الوجوب صراحة، والدليل هنا محتمل.

ولأن المقصود عودة المرأة إلى عصمة الزوج، وهذا لا يفتقر إلى الإشهاد لأنه ليس بمؤثر في هذه العودة، فأصبح ليس بواجب وإنما هو مستحب.

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الإشهاد مستحب، لكن الخلاف في أنه لازم أو ليس بلازم، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأن الأحاديث التي ذكرت تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، خاصة وأن الصحابة نصوا على أن الإشهاد ليس بواجب، ولذلك لما سئل عمران بن حصين رضي الله عنهما: عن رجل طلق امرأته ثم راجعها ولم يشهد؟ فقال رضي الله عنه: (راجعتها بغير السنة).

يعني: أنه كان ينبغي عليك أن تتحرى السنة، ولم يقل له: عليك إثم أو عليك حرج، فدل على أن الأمر ليس للوجوب، ثم حكم بصحة النكاح والرجعة، فلو كان الإشهاد شرطاً في صحة الرجعة لقال له: إنها ليست بزوجة، ويجب عليك أن تعيد الرجعة مرة ثانية وتشهد، ولكنه صحح رجعته، فدل على أن الإشهاد ليس بشرط في صحة الرجعة، وليس بلازم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>