للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الجنين إذا دفن مع أمه المتوفية وقد تجاوز الشهر السادس]

السؤال

والدتي توفيت أثناء الوضع ولم يخرج الجنين من بطنها، ولكن لجهلنا دفناها كما هي ولا ندري هل كان الجنين حياً أو ميتاً، فهل علينا شيء؟

الجواب

أولاً: كان ينبغي سؤال العلماء والرجوع إلى أهل العلم، وبالمناسبة أقول: أي مسألة شرعية تنزل للإنسان في نفسه أو مع الناس أو مع أهله أو ولده، ولا يسأل عنها ولا يستفتي العلماء؛ فإنه يتحمل إثمها وإثم كل ما يترتب عليها من الأخطاء.

هذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان فيه على بينة، بل حتى لو اجتهد ووافق اجتهاده الشرع وعنده علماء يمكن أن يسألهم ورجع وسألهم بعد ما فعل الذي فعل ووجد أن الذي فعله صحيح، فإنه لا يزال آثماً شرعاً، الذي فعله صحيح لكنه آثم لكونه لم يسأل العلماء.

سؤال العلماء ليس بالأمر السهل وليس بالأمر الهين، ولذلك فرض الله على أهل العلم أن يجيبوا السائل إذا سأل، وأمر الله نبينا من فوق سبع سماوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين في أوامره فقال: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:١٠].

فالسؤال أمر مطلوب وواجب شرعاً.

الأمر الثاني: لا يسأل كل أحد، فوالله لا تقف على أحد تسأله إلا وقفت بين يدي الله يسألك: هل هذا أهل أن تسأله أو لا؟ فجامل من شئت أن تجامل، وأنصف في دين الله وشرعه ما شئت أن تنصف، فستقف بين يدي الله عز وجل.

لا يجوز أن تسأل الجهّال وأنصاف العلماء وطويلبي العلم وكل من هب ودب، لا تتقي الله في نفسك ولا تتقي الله في دينك، ولا تتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تغرر به فتسأل إنساناً وتجلس بين يدي إنسان لا يستحق أن يجلس بين يديه أو يسأل.

وعلى كل شخص يُسأل أو إمام أو خطيب إذا جاءه أحد يسأل وهو يعلم من نفسه أن أهل العلم لم يزكوه بالفتوى، فعليه أن يتقي الله، وأن يخاف الله جل وعلا، وأن لا يكثر سواد الناس حوله ليغرر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا من الخديعة والغش.

وعلينا أن ننصح لله ولكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنصيحة لعامة المسلمين أن نتقي الله في الفتاوى، فليس كل أحد يسأل، بل تسأل من تستطيع أن تقف بين يدي الله عز وجل.

قال الإمام الشافعي: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله) لأنه علم أن كل صغير وكبير في هذا الدين سيسأل عنه أمام الله عز وجل، فلا تحضر لأحد يعلم إلا إذا كان قد أخذ العلم عن أهله، ولا تحضر لأحد يفتي إلا إذا كان قد أخذ الفتوى عن أهلها.

نقول هذا الكلام لأن هذا الزمان كثرت الفتوى فيه، وكثر الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبح يلمع ويبرق ويزين للأمة من ليس بأهل للفتوى، ومن ليس عنده دين ولا ورع ولا علم ولا عقل يمنعه ويردعه، فتسمع الفتاوى العجيبة هنا وهناك ويشتت بالأمة شذر مذر.

فهذا أمر ليس بالهين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:١٥] وما ضلت الأمة ولا شقيت في هذا الزمان بشيء في ثلمة الدين مثل الفتوى، خاصة في أمور العقيدة والأحكام التي يتعبد بها الناس ربهم.

فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يفعل أي شيء لنازلة نزلت به حتى يرجع إلى العلماء ويسألهم، ويسأل من يرضى بدينه قال الإمام مالك: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون)، الله أكبر ما أعظم الورع والخوف من الله جل وعلا! إنه ما رضي أن ينصب نفسه مفتياً في دين الله عز جل حتى شهد له الأمناء العلماء الأتقياء الأصفياء أنه أهل لذلك.

ولذلك بورك له في علمه وفتواه، وبورك له في قوله، وبورك فيما كان عليه رحمه الله برحمته الواسعة، فلا يجوز لأحد أن يتساهل في هذه الأمور.

وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس وينصحوا لهم، فأي شخص يأتي ليسألك قل له: يا أخي! لست بأهل للسؤال، وإذا كان في مدينتك أو قريتك أو بلدتك رجل تلقى العلم عن أهله تقول له: اذهب إلى فلان واسأله.

هكذا كان الصحابة والتابعون وأئمة السلف وأهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان يحيلون إلى من هو أهل للفتوى.

الأمر الثالث: مسألة دفن المرأة وفي بطنها جنين فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: إن المرأة إذا لم تخرج جنينها وتمت للجنين ستة أشهر ووجد الدليل على حياته فإنه يشق بطن المرأة ويستخرج الجنين منها.

القول الثاني: إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين أو ماتت أثناء الوضع، ولا يمكن إخراج الجنين إلا بشق البطن فإنه لا تشق بطن المرأة.

القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى، من أنه يشق بطن المرأة لعدة أدلة: أولاً: أن الله أوجب علينا إنقاذ الأنفس من التهلكة، فإذا ثبت بدليل أو بشهادة أهل الخبرة، كما في زماننا من وجود الصور الإشعاعية التي تبين حال الجنين في بطن أمه؛ فإنه لا يجوز لنا أن نتسبب في هلاك هذه النفس؛ لأن الله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما توقف إنقاذه على شق البطن صار شق البطن واجباً.

ثانياً: فقه المسألة من حيث القواعد أنه تعارضت عندنا مفسدة موت الجنين ومفسدة شق البطن، فوجدنا أن مفسدة موت الجنين أعظم من مفسدة شق البطن؛ لأن مفسدة شق البطن أهون من عدة وجوه: أولاً: أن الروح أعظم من إتلاف الجسم، ولذلك لو أن شخصاً وقعت الأكلة في يده مثل ما هو موجود الآن في مرض السكري أو نحوه، إذا سرت (الغرغرينة) في قدمه وقال الأطباء: إذا لم تقطع رجله يموت، وجب قطعها؛ لأن مفسدة العضو أهون من مفسدة النفس كلها، فهذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن مفسدة شق البطن يمكن تداركها بالخياطة، وأما مفسدة موت الجنين فلا يمكن تداركها أبداً.

وحينئذٍ القاعدة (أنه إذا تعارضت المفسدة التي يمكن تداركها مع المفسدة التي لا يمكن تداركها قدمت المفسدة التي لا يمكن تداركها على المفسدة التي يمكن تداركها)، فوجب شق البطن.

ولذلك كان الذي تطمئن إليه النفس أنه يشق البطن ويستخرج الجنين، وفي هذه الحالة ينزع الجنين إذا أمكن نزعه، وإذا لم يمكن فإنه يجوز الشق ولو توسع في شق الموضع الذي يخرج منه الجنين ثم يخاط بعد إخراج الجنين؛ إبقاءً لهذه النفس المحرمة.

وأما بالنسبة لكم في هذه الحال فينظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، إذا كانت هناك أدلة تدل على حياة الجنين، مثل أنها قبل الطلق بيوم أو يومين أو مدة صورت وثبت أن الجنين حي أو بالحركة التي كان يعرفها القدماء يعرفون بها حياة الجنين من حركته وانقلابه، ونحو ذلك مما يدل على وجود الروح فيه، مما أشار إليه العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.

فالأصل أنه حي ويكون قبر المرأة على هذا الوجه فيه شبهة بقتل الجنين، والقاعدة أن قتل الجنين بإلقائه حتى يموت أو تعاطي أسباب موته على هذا الوجه الذي ذكر، خاصة وأنه لم تكن هناك شبهة الفتوى، بحيث أنكم ما سألتم أحداً يرى عدم جواز الشق.

فالأشبه في هذا أنه صورة قتل بالسببية، والقتل بالسببية موجب للضمان، لأنكم لم تقتلوه مباشرة وإنما قتلتموه تسبباً، وذلك أنه كان يجب إنقاذه.

قال العلماء: لو أن شخصاً رأى غريقاً وناداه وبيده حبل كان يمكنه أن يلقيه له وينقذه، أو مر على جائع في مخمصة شديدة ويحتاج إلى ماء وطعام وبيده الطعام والماء وامتنع؛ كان قاتلاً له بالسببية، فإن قصد موته كان قاتلاً بالعمد والعياذ بالله.

أما إذا قال: لا والله أنا هذا الطعام أخذته لنفسي، وعنده نوع من البخل، فهذا نوع من الشبهة، ولا يكون قتل عمد لكن إن قال: أنا قصدت قتله وأريد أن يموت، فهذا قتل عمد؛ لأن السببية المفضية للهلاك تكون بحكم المباشرة.

أو نهشته حية فإن الحية هي التي قتلته، لكن السببية في تقريب الحية الذي أتى بها، أو حبسه في زريبة أسد فقتله الأسد، فالذي باشر قتله الأسد، والقتل سبب مفض للهلاك، فالسبب المفضي للهلاك مؤثر، ولذلك قالوا: لو أنه ضربه على مكان يغلب على الظن القتل به وأراد به الإضرار، كان سببية مفضية إلى القتل آخذة حكم قتل العمد.

وقد فصل العلماء رحمهم الله في مسائل قتل الصيد، وسيأتينا إن شاء الله بيان أحكام السببية المباشرة في باب الجنايات، ولذلك فالأشبه والأحوط في هذا أنه قتل السببية.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>