للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفرق بين الطلاق والوطء حال الحيض]

السؤال

أشكل عليّ أن الطلاق في الحيض يقع، وهنا لم يعتبر الوطء في الحيض، وذلك بالنسبة للتحليل؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: مسألة الطلاق في الحيض قدرنا أن هناك ما يقرب من اثنتي عشرة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عمر وعن بعض أصحاب ابن عمر رضي الله عنهم الثقات، مثل سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولاه، ومحمد بن سيرين وأنس بن سيرين ومن طريق خالد الحذاء.

وهي روايات صحيحة ليس فيها إشكال، وأن ابن عمر نفسه كان يفتي أنها مطلقة وأن الطلاق قد وقع.

وبينا أن هذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة، فإنهم يقولون بوقوع الطلاق والاعتداد به، فأوقعوا الطلاق بنص كتاب الله، فإن الله عز وجل نص على أن من طلق مضي عليه طلاقه، وهذا هو الأصل، فمن طلق في الحيض فقد طلق بكتاب الله عز وجل.

فإن قال قائل: إن المرأة أثناء الحيض محرم عليه أن يطلقها، نقول: هذا مبتدع، والمبتدع يزجر بالعقوبة؛ لأنه حتى من جهة المعنى متفق على أنه يقع طلاقه، ومن جهة الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يفتون بوقوع الطلاق.

والحقيقة للمحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة بحث من أنفس البحوث في هذه المسألة، في الجزء السابع من إرواء الغليل، تكلم كلاماً نفيساً جمع فيه الروايات، وهناك رواية عن حنظل بن أبي سفيان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها احتسبت طلقة.

فنحن نطلق بالكتاب والسنة، فالطلاق في الحيض يقع بالكتاب والسنة.

أما مسألة الجماع في الحيض، فالجماع في الحيض جماع ناقص، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:٢٢٢].

فاشترط الشرع أن يوجد ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يكون على وجه فيه ضرر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:٢٢٢].

ومن إعجاز القرآن أنهم وجدوا أن الجماع في الحيض يورث التهاباً وأمراضاً في غدد البروستات وغيرها، وهذا من إعجاز القرآن ومن الحكم العظيمة، والأسرار التي أطلع الله عز وجل عليها العباد، ولم يعرفوها إلا الآن، وقد عرفها أئمة السلف من قرون عديدة.

حتى إن بعض الباحثين من الكفار لما تبجح أنهم اكتشفوا ذلك قال له بعض الموفقين: هذا الذي عرفتموه اليوم كان يعرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً.

كل هذا بفضل الله ثم بفضل هذا القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢].

فالوطء أثناء الحيض أذىً، حتى إن الأطباء يثبتون أنه ضرر، فكيف تثبت الوصف الشرعي (حتى تذوقي عسيلته)؟ فالوطء في الحيض لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر، لأن المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء وأصابها فإنه يؤذيها.

حتى إن بعض الأطباء يستغرب من اشتراط كون المرأة لا تجامع في النفاس إلى الأربعين، وجدوا من ناحية طبية أنه يضر بالمرأة، ويؤذي جماعها، فكل هذه الأمور فيها أضرار.

والوصف الذي اشترطه الشرع من كونه يذوق العسيلة وتذوق هي عسيلته غير موجود في حال الحيض وفي حال النفاس، حتى المرأة نفسها لا تذوق العسيلة على الوجه المعتبر، ومن هنا اختلف القياس.

هذا الجواب الأول، فنقول: لا اعتراض؛ لأن تلك الصورتين كل صورة تخالف الصورة الثانية، فهنا يتحقق وصف الشرع بأنه مبتدع ووصف الشرع أنه يزجر، مع نص القرآن على أن طلاقه نافذ.

أما رواية أبي الزبير (ولم يرها شيئاً) فهذه رواية محتملة؛ لأن رواية أبي الزبير ليست كالروايات الصريحة عن ابن عمر نفسه رضي الله عنه صاحب القصة، والذي هو أدرى بما رواه، وليس أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي رحمه الله بمنزلة نافع مولى ابن عمر ولا بمنزلة سالم بن عبد الله بن عمر في الضبط عن ابن عمر وهؤلاء الأئمة الأثبات في الرواية والضبط أدرى بروايتهم عن ابن عمر.

ولو سلم أن أبا الزبير له مكانته في الحفظ والرواية، لكنه خالف من هو أوثق منه وأقوى منه رواية، ثم إن اللفظ الذي قاله: (ولم يرها شيئاً) معناه: لم يرها على السنة ولم يرها موافقة على السنة.

فحينئذٍ يكون لفظه: (لم يرها شيئاً) محتملاً لأمرين: لم يرها طلاقاً، ولم يرها على السنة، والقاعدة أنه إذا روى الراوي وجاءت روايته معارضة لرواية الأكثر والأشهر، وعارضت الأصل، ولها معنىً يوافق الأشهر ويوافق الأصل، وجب صرفها لما هو موافق للأشهر والأصل.

فنقول: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، وهذا جواب الإمام الشافعي رحمه الله برحمته الواسعة، فإنه أجاب على رواية أبي الزبير من أنها ليست صريحة، إنما تكون صريحة ومعارضة حينما يقول ابن عمر: (احتسبت) ويفتي ابن عمر بالطلاق المحتسب فتأتي رواية: ولم يحتسبها طلاقاً.

إذا قال: (لم يحتسبها طلاقاً) تعارض صريح مع صريح كما هو معروف في الأصول، لكن (لم يرها شيئاً) يحتمل أنه لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، ويحتمل أنه لم يرها طلاقاً، هذا كله محتمل.

فاللفظ ليس بصريح، والقاعدة (أنك لا تحكم بالتعارض في الروايات إلا بشيء صريح) حتى لا تضرب بعض النصوص ببعض، إذ الكل خارج من مشكاة واحدة، وشرع الله عز وجل إذا جاءنا بنقل الثقات لا شك أنه في الأصل مقبول غير مردود، وينبغي التسليم له والعمل به.

ولذلك نقول: إن الحيض ألزمنا الطلاق به إعمالاً للأصل من أن المطلق ينفذ عليه طلاقه، وعملاً بالروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعة كما في مسند عبد الله بن وهب رحمه الله وهي رواية صحيحة، واحتسبت الطلقة.

وكذلك الروايات الموقوفة عن ابن عمر أفتى فيها بالطلاق، وإعمالاً لأصل الشرع، فإن المبتدع الأصل فيه أنه يزجر ويعاقب لا أنه يخفف عليه بأنها لا تقع طلقة.

هذا ليس مقام عبادات يثاب عليه، الفقه أن تنظر إليه من أنه إنسان متعد لحدود الله؛ لأن الله لما ذكر الطلاق الشرعي في الطهر قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:٢٣٠].

فبيّن أن الطلاق في الحيض اعتداء على حدود الله عز وجل، والمعتدي على حدود الله نعرف من أصول الشريعة أنه يزجر ويعاقب، هذا مبتدع الأشبه به أنه يزجر.

ولذلك تجد من يطلق في الحيض ويجد من يخفف عنه ويقول له: لا ليس عليك شيء؛ يستخف بهذا الأمر، ولا يراه شيئاً.

لكن لو قيل له: إن الطلاق ماضٍ عليك وإنك ابتدعت واعتديت على حدود الله عز وجل؛ فإنه يكون أبلغ في تحقيق مقصود الشرع.

وأما بالنسبة لجماع المطلقة ثلاثاً في الحيض فإنه ليس بالجماع المأذون به شرعاً حتى نرتب عليه الأحكام الشرعية.

وقد اشترط الله عز وجل جماعاً مأذوناً على السنن الشرعي، فنقول: لا يتحقق به الحل على القول الذي اختاره المنصف رحمه الله.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>