للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء]

قال رحمه الله: [وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطأها وهي ثيب صُدِّق مع يمينه]: شرع رحمه الله في بيان مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء، وقد تقدم معنا في مسائل المعاملات أن العلماء رحمهم الله من عادتهم أن يذكروا مسائل القضاء في آخر كل باب على حدة فيما يختص به من المسائل.

فهنا عندنا مسألة وهي: إذا وقع الإيلاء وجاءت المرأة بعد أربعة أشهر واشتكت، قلنا: إن الوطء يقطع حق المرأة ويزيل حكم الإيلاء، فإن قال الرجل: وطأتها، وقالت المرأة: نعم.

وطأني، فحينئذٍ لا إشكال، وقد ثبت عندنا أنه حصل وطء، ويعتبر الوطء فيء ورجوع.

لكن الإشكال لو قال: وطأتك -يخاطب زوجته أمام القاضي- وطأتك خلال مدة، فليس من حقكِ أن تخاصميني، فقالت: ما وطأني وما حصل وطء، وأنكرت الوطء، فهل نصدق الزوج أو نصدق الزوجة؟ للعلماء وجهان في هذه المسألة: فمن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأنه يبقي حكم النكاح -وهذا هو الأصل- ولا نصدق الزوجة؛ لأنها تدعي أمراً يئول بالنكاح إلى ارتفاعه؛ لأنه ربما رجعت المسألة إلى الطلاق.

وبناءً على ذلك: قالوا: إنه يُصَدَّق الزوج؛ لكن هذا التصديق مبني على مسألة التهم، وفي مسائل التهم إذا صُدِّق القول مع التهمة فإنه يطالب باليمين التي تسمى عند العلماء في القضاء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء- بيمين التهم، ويمين التهمة تقوي جانب الخصم على خصمه، قال الناظم: فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتُضِي أي: باليمين يعتبر القول الذي يعارضه غيره مع وجود التهمة؛ لأنه يحتمل أن تكون المرأة صادقة وأنه ما وطأها.

والسبب في الخلاف: أن بعض العلماء يقول: تصدق الزوجة؛ لأن الأصل عدم وجود الوطء؛ لأنه قال: والله لا أطؤك، فالأصل أنه ما وطأ لأن عنده يميناً تمنعه من الوطء، فقالوا: نصدق الزوجة ونقبل قولها ونطالب الزوج بالفيء أو التطليق.

ومن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأن المرأة في ادعائها أنه لم يطأ تدعي أمراً خلاف الأصل، مما يوجب رفع النكاح كما تقدم معنا.

فهذا وجه الخلاف بين القولين، ولكل قول وجهه.

قال رحمه الله: [وإن كانت بكراً وادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدلٌ صُدِّقت].

الخلاف الأول: إذا كانت ثيباً، وهي التي لا علامة فيها ولا أمارة تميز وجود الوطء وعدمه، لكن إذا كانت بكراً فهناك علامة تؤكد أو ترجح، ولذلك قالوا: قد يقع جماع البكر دون افتضاضٍ لبكارتها، وهذا أمر نادر، والشرع لا يبني الحكم على النادر؛ لكن بعض العلماء لا يعتد بهذا الوطء.

وعلى كل حال قالوا: إذا ادعت بأنه لم يطأها وكانت بكراً والبكارة موجودة؛ لأنه ربما تكون المرأة قد أزيلت بكارتها قبل النكاح، وليس زوال البكارة يدل على أن المرأة فاسدة في كل الأحوال؛ لأنه ربما زالت بكارتُها بسبب قفز أو بسبب غير الوطء، وهذا أمر ثابت طبياً.

ولذلك فمسألة وجود البكارة وعدمها قرينة أو مرجحة، لكنها لا توجب القطع ولا توجب الثبوت من كل وجه، وهي ترجح جانب المرأة، فلو أنها قالت: ما وطأني، وأنا بكر، كامرأة عقد عليها زوج وهي بكر ثم حلف أنه لا يطؤها ومكن من الدخول ثم حلف أن لا يطأها، فاشتكته إلى القاضي بعد أربعة أشهر فقالت: ما وطأني، وقال الرجل: بل وطأتها، فقالت المرأة: تزوجني وأنا بكر ولا زالت بكارتي موجودة، فقيل للرجل: ماذا تقول؟ قال: لا أزال مصراً على قولي، وفي هذه الحالة ينتدب القاضي امرأة أو طبيبة شرعية يوثق بقولها شرعاً للنظر والتأكد مما ذكرت، فإن وجدت البكارة كما هي فلا إشكال، لكن الإشكال أن هذا كان موجوداً في زمان الأولين حين يتعذر إعادة البكارة، لكن في زماننا يمكن إعادة البكارة؛ ولذلك فهذه المسائل بعضها يحتاج إلى نظر وتحرير، وهو مختلف في الحكم باختلاف الأزمنة.

وهذا النوع هو الذي يسميه العلماء: تغير الفتوى بتغير الزمان، وليس المقصود بتغير الفتوى -كما يظنه البعض- التلاعب بالنصوص الشرعية، والدعوة إلى الأمور المحرمة كمسائل السفور ونحوها تحت غطاء تغير الفتوى بتغير الزمان هذا لا يصدر من إنسان عالم قرأ نصوص الكتاب والسنة، وفكر في دين الله وشرع الله.

لكن قد توجد أمور تقتضي تغير الأحكام بتغير الأزمنة؛ ومنها هذه المسائل، فإن العلماء حكموا بأنها أمارة ودليل ربما يستأنس به، لكن في زماننا يمكن رتق غشاء البكارة.

وهذا النوع من الجراحة لا أشك في حرمته شرعاً، فلم أجد نصاً في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يبيح هذا النوع من الجراحة، مهما ادعي من الادعاءات، حتى ولو أن المرأة اغتصبت وأوذيت بالباطل، فليس من حق الطبيب أن ينظر إلى فرج المرأة، ولا أن يستبيح الإيلاج، ولا أن يستبيح اللمس، وليس من حق حتى المرأة مع المرأة؛ لأن الفرج هو العورة المغلظة المشدد في حرمتها.

فإذا قالت: إنها ستعيدها، بناءً على أن هذه المرأة اغتصبت، بقي حق الزوج، فكيف يدخل على امرأة يظنها بكراً، وتعامله معاملة البكر، ويعطيها مهر البكر، فأين حق الزوج؟ وهذا اختلال في النظر، ولذلك فإن بعضهم -أصلحهم الله- يفتي بمسألة رتق غشاء البكارة تحت العواطف وتحت المبررات، مع أن هذا أمر من ناحية شرعية ليس له مبرر فيما ظهر لي بعد دراسة هذه المسألة والنظر في أدلة من يجيزون هذا النوع من الجراحة.

ولا أشك أن هذا النوع من الجراحة المحرم لا يجوز للطبيب ولا للطبيبة أن يقوما به؛ لأنه ليس هناك مبرر شرعي للقيام به، وكل ما في الأمر أنه إذا اعتدي عليها واغتصبت، فإنه إذا جاء من يخطبها فإن الله أمرنا بأن ننصح ونبين فنقول له: إن أردت أن تسترها فأنت مأجور، ولا شك أن من فعل ذلك له عند الله عظيم الأجر وعظيم الثواب، إذا احتسب وقصد من ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن الله يأجره.

فيطلع على الحقيقة، ويبيّن له أن المرأة صالحة وأنها مستقيمة، وأنها اعتدي عليها، أو يثبت ذلك بالوسائل الموجودة في زماننا ثم يعرض الأمر عليه، فإذا ارتاحت نفسه واطمأنت أن يحتسب الأجر عند الله، وأن يطلب من الله عز وجل أن يخلف عليه في مصيبته، فهذا فضل وخير منه، والله يأجره على ذلك، وإذا لم يرد فلا بأس، أما أن يرتق غشاء البكارة، ويدل الرجل على المرأة على أنها بكر، فلا يجوز.

ثم إن هذا النوع من الجراحة فتح -والعياذ بالله- باب الفساد، فتجد المرأة لا تبالي أن تقدم على الحرام تحت طمأنينتها أن غشاء البكارة يمكن رتقه، فإبطال هذا النوع وقفل بابه لا شك أنه يقفل باب مفاسد كثيرة وشرور عظيمة.

فمنع هذا النوع كلية والحيلولة بين الطبيب من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية يمنع المفاسد المترتبة؛ لأنه لو وجد عذر لبعض فئات من المجتمع، فإنه لا يوجد العذر في الفئة الثانية التي ربما تقع في الحرام حقيقة، ثم تدعي أنها اغتصبت أو أنه فعل بها هذا بدون حق.

فالشاهد: أن مسألة ادعاء البكارة من المسائل التي تحتاج إلى أن يفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي أمكن فيه عود الغشاء كما لا يخفى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>