للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم إنزال الجنين في الشهر الأول لعذر]

السؤال

إذا حملت المرأة في الشهر الأول وأرادت أن تسقط حملها لأنها مريضة، هل يجوز لها القيام بذلك؟

الجواب

في إسقاط الجنين قبل الأربعة الأشهر الجمهور على أنه لا يجوز؛ إعمالاً للأصل، ومن العلماء رحمهم الله من رخص بجواز إسقاط الأجنة قبل الأشهر الأربعة، ومن حيث الأصول الشرعية لا شك أنه لا يجوز التعرض للأجنة إلا بدليل شرعي واضح.

وحديث ابن مسعود: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) يدل على أنه خلق، والجمع هذا جزء من الخلق، ولا يجوز التعرض للخلق، والشريعة لا تجيز للأطباء أن يتدخلوا في أبدان الناس إلا في جانبين: الجانب الأول: الطب الوقائي.

والجانب الثاني: الطب العلاجي والدوائي.

وغير هذين الجانبين لا يجوز للطبيب أن يتدخل في بدن الإنسان، ولذلك نقول: قالوا في تعريف الطب المشروع: حفظ الصحة حاصلةً واستبدادها زائلة بإذن الله عز وجل، فقولهم: (حفظها حاصلة): هذا الطب الوقائي، فالطبيب يعطي المريض إرشادات ونصائح تحافظ على صحته ولا يبتلى بمرض، فهذا من حفظ الصحة حاصلة.

وقولهم: (واستبدادها بإذن الله زائلة) كمريض أصابه المرض يعالج، وغير هذين الجانبين عبث، وتدخل في خلق الله عز وجل، واعتداء على حدود الله ومحارمه.

فلا يجوز للأطباء أن يقدموا على شيء يخرج عن هذين الهدفين، وما خرج عن هذين الهدفين يعتبر تدخلاً في خلق الله عز وجل مثل العبث في الجينات الوراثية، ومثل تغيير صفات الجنين قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} [الأعراف:٥٤] هذا أسلوب حصر وقصر، أي: ليس لأحد أن يتدخل في الخلق، فالخِلقة للخالق، فهو الذي يصور، وهو الذي يدبر سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤].

فإذا جاء الطبيب يريد أن يتدخل في الخلقة جاءته اللعنة، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة والمتفلجة، وهي المرأة لا تستطيع تفلج أسنانها إلا بطبيب يحسن ذلك، فلعن الله المرأة التي تفعل، ولعن الله من يقوم بذلك الفعل، الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة، كلهن مغيرات للخلقة، ثم قال في: (المغيرات خلق الله).

والطبيب يحافظ على الصحة في الأبدان، ويدفع عنها بإذن الله؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله)، وأمر إنزال الجنين خرج عن هذا فليس بطب بل هو عبث ومجاوزة للحدود الشرعية، فالخلق إذا تخلق في بطن الأم نقول: فيه تفصيل، ولو كان يعرف الجنين بليلة واحدة، فلا نستطيع أن نقول: افعل أو لا تفعل إلا بنص شرعي، فهذه أبدان لها حرمات، وهذه أمور لا يجوز التسرع فيها؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى كما في الحديث: (فليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة) تعظيماً منه سبحانه وتعالى لما يفعله المصورون، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)؛ لأنه تدخل في الخلقة، ولو بالمشاكلة، فحينما يرسم تمثالاً، أو يرسم صورة تأتيه اللعنة ويعذب (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).

فإذا كان هذا في مشاكلة الخلقة فكيف بالذي يتصرف بالخلقة نفسها، فهذه أمور لا تجوز، وهناك أمور ينبغي أن يسلم بها تسليماً، فنقول لهم: افعلوا كل شيء فيه مصلحة أو دفع مضرة، فإذا جئتم في أمر خارج عن هذا فليس من اختصاصكم.

فإن قال: نريد أن نتصرف في هذا الجنين، أو: نريد أن نسقطه نقول: أعطونا المبررات، كما لو كان خوفاً على الأم فعلاً وقرر ذلك الأطباء، ويسمى هذا النوع من الحل الحل المنتدب والمهاجر والقانوني.

فإن حملت فتخلق الجنين في القناة، وغلب على الظن أنه سينفجر ويقتل الأم ويموت، فلا الجنين باقٍ ولا الأم باقية، فلهذا المعنى يمكن أن يتدخل الطبيب ويسقط الجنين، فلا يتدخل إلا لحفظ النفس المحرمة، ومحافظة على الروح، وهذا له مبرور.

فهذا إجراء وقائي وداخل تحت الطب الوقائي، لكن أن يقال: ثبت ومن خلال الجينات والمعادلات أن هذا الجنين مشوه، فإن هذا ليس من اختصاصك، فالكون له رب، والخلق له رب يدبره ويصرفه، فلست أنت الذي تستدرك على الله عز وجل، وكم من مشوه في الخلقة فاق الكامل بصيرة وعلماً وخبرة، فـ عطاء بن أبي رباح إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم كان أشل أفطس مولى رحمه الله برحمته الواسعة، فالذي يأخذ ويعطي هو الله، وهذه أمور لها حكم ولها أسرار، فترى شخصاً مشلولاً فإذا رأيته تذكرت نعمة الله عليك، فهذه أمور لها حكم ترفع درجات المبتلى، وينبه غير المبتلى.

وهي أسرار وحكم إلهية ليست من اختصاص الأطباء، والأطباء لهم علم معين محدود لكن هناك أمور إلهية وأمور عقدية، وأمور لها تبعات، ولها أسرار وحكم، ولا يستطيع أحد أن يقف عليها.

ولذلك ينبغي أن يتقيد بهذا الأصل، وأقول من ناحية شرعية: إنه ينبغي على الإنسان أن يعلم أنه لا يحل لأحد أن يتصرف في خلقة الله عز وجل إلا بدليل شرعي، فإذا وجد الدليل الشرعي سار وفقاً له، فإن قالوا: لا ينفخ الروح فيه إلا بعد مائة وعشرين يوماً فهل نفخ الروح شرط في جواز إسقاط الأجنة، بحيث يجوز إسقاطها قبل؟! فأين المسوغ الشرعي للتصرف؟ وفي بعض الأحيان تجرى بعض العمليات بالكشف عن العورة، أو بالإيلاج في العورة، أو بالنظر إلى العورة، فأين الأدلة التي تعطي هذه المبررات؟! حتى إن بعض الأطباء يفتي بالجواز، دون النظر في حقيقة الإسقاط وطريقته والمحاذير الموجودة فيه، فهل كل امرأة جاءت تشتكي من أنها تتألم أو تجد بعض المتاعب في حملها نعطيها حبوباً لمنع الحمل أو نسقط أجنتها؟ فهذا كله مخالف للأصول الشرعية.

الأصول الشرعية والضوابط الشرعية ينبغي للأطباء والعلماء أن يتقيدوا بها، وإسقاط الأجنة ليس أمره من السهولة بمكان، وعلى كل عالم أن يذكر الناس بنعمة الله في الولد، أو يذكره بالعقيم الذي لا ينجب، وأن يذكر المرأة بالعقيم التي لا تنجب، وأن المسألة فيها أجور وحسنات، فالحمل كره والوضع كره، فلا يوجد حمل مبني على الراحة والطمأنينة.

ولماذا جعل الله فضل الأم على الأب مضاعفاً؟ ولماذا جعل الله طاعتها من البر والحق؟ وجعل لها رفعة الدرجة حتى جعل النفساء التي تموت في نفاسها شهيدة، فأعلى درجتها ومكانتها لهذه الأمور، وهذه أمور قدرها الله عز وجل لا يتدخل الإنسان فيها طبيباً ولا غيره، حتى الأصول الشرعية العامة تمنع، فعندما يتأمل أي إنسان عنده ذرة من الفقه أن مقصود الشرع تكثير نسل وسواد الأمة يعلم أن هذا مصان.

حتى النكاح ما وجد إلا من أجل كثرة الأمة، فكيف يقال: يجوز أن تسقط؟ وبكل سهولة تأخذ المرأة حبوب منع الحمل، وتأخذ ما يسقط الأجنة، وتعمل العمليات التي تسقط الأجنة، وكل هذا بناء على أن الجنين لم يكتمل خلقه إلا بعد مائة وعشرين يوماً.

مع أن حديث ابن مسعود فيه اختلاف في اللفظ، ويحتمل أن النفخ يكون في الأربعين يوماً.

وهذا أمر ينبغي أن يدرك، حتى إن بعض الأطباء يستشكل هذا، وعلى كل حال فالذي أريد أن أنبه عليه ألا يتوسع في الفتاوى، وأن تدرس بعمق، وأوصي طلاب العلم -خاصة في هذا الزمن- بعدم قبول أي فتوى طبية تصدر دون أن يكون الذي أفتى بها قد جلس مع الأطباء، ودرس وعرف المصلحة أو المفسدة من تلك الفتوى.

وأنا أحببت أن أنبه على هذا لأهمية الأمر، ووالله ثم والله إنه لأمر يحزن أن تجد المسلمين يتناقصون وأعداء الإسلام يكثرون، ففي بلاد الكفر لا يمكن أن تصرف حبوب منع الحمل إلا بوصفات طبية، وتحت إشراف الأطباء، ونحن على عكس ذلك، وهم لا يريدون من المسلمين أن يكثروا.

والمرأة تجدها تشتكي تقول: إنها قد كان منها حمل قبل ذلك.

ولا تنظر إلى أمها التي حملت أربعة عشر ولداً، ومن النساء من أنجبت عشرين ولداً، وأنجبت وهي ترعى الغنم في الصحراء والقفار، وما ازدادت الأمة إلا عزة ومنعة وكرامة، لكن هذه أمور ينبغي أن تدرس بعناية، وعلى من يفتي فيها أن يكون عنده إلمام ونضج تام بالأمور الشرعية.

فالخلقة خلقة الله، والمسألة عقدية يرد فيها اللعن.

فالشاهد من هذا كله مدى خطورة الأمر؛ لأنه متعلق بالاعتقاد.

والقضية الأخيرة التي أنبه عليها أنه قل أن تجد أحداً يسأل في مسائل إسقاط الأجنة من النساء أو الرجال إلا وجدت عنده خللاً في الاعتقاد، إلا من كان له مبرر شرعي.

فامرأة لا تريد الولد، وفي الظاهر تقول: الأولاد أتعبوني هي امرأة تنظر إلى المادة وتنظر إلى المال، فينبغي للفقيه أن يدرك وأن يكون بعيد النظر، فهذه ليست مبررات، وكل امرأة تعلم أن هناك تعباً وعناءً، لكن المسألة راجعة إلى فساد الاعتقاد.

ولذلك كان بعض مشايخنا يقول: يرد الشرع باللعن على الواشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة بالحسن المغيرة لخلق الله عز وجل؟ قال: لما تأملت وجدت الأمر يرجع إلى الاعتقاد؛ لأن التي نمصت شعر حاجبها، أو شعر وجهها، أو التي تفلجت بحسن كأنها لم ترض بخلقة الله عز وجل لها بهذا الشكل، ولذلك جاء في آخر الحديث: (المغيرات خلق الله)، فجعل الأمر راجعاً إلى محبة تغيير الخلقة.

فعلى كل حال علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نعلم علم اليقين أن ما نقول عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك سنحاسب عنه، وأن المسائل الاجتهادية والأمور التي تنبني على الرأي ينبغي أن تفهم، وأن يكون هناك تصور كامل للوقائع والنوازل، وألا تستغل الفتاوى، وأن يكون هناك علم وبصيرة عند تناول المسائل، خاصة المستجد منها.

ومن الأمور التي ينبغي للفقيه والعالم أن يدركها أنه كلما أكثر من الجلوس مع الأطباء تكشفت له أمور لم تكن له بالحسبان، وقد تجد أقوالاً متناقضة، فتجد الأول يقول لك: هذه عملية بسيطة، وما فيها شيء، ونسبة النجاح فيها (٩٠%)، وتجد الثاني يقول لك: هذه عملية خطرة، ونسبة النجاح فيها (٣٠%).

فتجد التضارب الذي تستطيع أن تصل به إلى الحق في الأمر، وتكون أنصح للأمة وأتقى في فتاويك وفي أقوالك، وأنا أوصي بذلك طلاب العلم؛ لأن بعض الناس أصبح يتس

<<  <  ج:
ص:  >  >>