للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الربط الدائم للعبادات بالحكم والأسرار]

السؤال

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يُنسأ له في أثره ... ) الحديث، ما العلاقة بين زيارة الأقارب والمد في العمر والبركة في الرزق؟

الجواب

الحديث صحيح وهو: (من أحب منكم أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، فليصل رحمه)، ولا إشكال في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بيان منه عليه الصلاة والسلام للثواب والجزاء الذي أعده الله لمن وصل الرحم، واشتمل على إنساء الأثر، وأصل نسأ في لغة العرب: التأخير، كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:٣٧]؛ لأنهم كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها ومواعيدها، وسمي ربا النسيئة نسيئاً؛ لأنه تأخير لأحد الربويين مما يجب فيه التقابض في مجلس العقد، فالنسأ أصله التأخير، فالمعنى: يزاد له في العمر.

والأصل أن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكن هناك أوجه عند أهل العلم رحمهم الله في كيفية زيادة عمره، فمنهم من قال: إن الله تعالى يبارك في عمر الواصل لرحمه حتى أن السنة تعادل عشرات السنين، ولذلك من الناس من يعيش اليوم كسنة، ومن الناس من يعيش السنة كسنوات؛ لما وضع الله له من البركة والخير، بركة في نفسه، وبركة في أهله، وبركة على الناس، إما أن يكون داعية إلى الله عز وجل يحمل هموم الأمة فينفعهم وينصحهم ويوجههم، فلربما عمل الساعة منه تعادل سنوات؛ لما وضع الله له من البركة والأجر والمثوبة، وربما خطيب في مسجد ينصح الناس ويوجههم ويرشدهم إلى الخير، فيبارك الله في خطبته سنوات من عمره؛ لما يضع لها من القبول والانتشار بين الناس، وينتفع بما فيها من الخير، وكذلك ربما يكون الرجل عنده مال يسخره على هلكته بالحق، فيكسي به العاري، ويطعم به الجائع، ويغيث به الملهوف، وينصر به المظلوم، ويعين به على نوائب الحق؛ فيجعل الله اليوم من أيامه كالسنوات من غيره، لما فيه من الخير والبركة، فيدعو له الناس، ويعظم ترحم الناس عليه، وتكثر صلواتهم ودعواتهم له بالخير والبركة، فيبارك له في عمره وكأنه عاش سنيناً عديدة، وهذا كله راجع للبركة التي يضعها الله عز وجل.

ولذلك تجد أنك في بعض الأيام توفق لكثير من الأعمال التي تعملها في خاصتك لنفسك وأهلك وولدك بما لم يخطر لك على بال؛ لما يوضع من البركة، وهذا كله مقرون بطاعة الله عز وجل، فهذا وجه عند بعض العلماء، فمثلاً: عمره ستون سنة لا يزيد ولا ينقص، ولكنه إذا كان واصلاً للرحم جعل الله عز وجل أيام عمره بعد صلته للرحم طويلة مديدة بسبب البركة، فاليوم -بما يكون فيه من الخير والبركة عليه وعلى غيره- كأيام.

ولذلك تجد بعضهم إذا عاش بين الناس نعم الناس بعيشه بينهم لما فيه من الخير، فتجده -مثلاً- شجاعاً ينصر المظلوم، فيجعل الله عز وجل أيامه أيام خير وبركة، وما كان بين قوم إلا نفعهم الله به، ومنهم من يكون كريماً جواداً حتى أنه يموت وهو حي في الناس بسبب ما يذكرونه له من مآثر ومواقف حميدة، فكم يموت أقوام وهم في الناس أحياء بمآثرهم، فلم تمت مكارمهم ومآثرهم، وهذا زيادة في العمر؛ لأن أحدهم كأنه حي موجود يذكر في المجالس، وكأنه حي بسبب ما كان منه من الخير والبركة.

وهناك قول ثانٍ أنه يزاد في العمر حقيقة، فصحيفة الملك فيها: أن عمره ستون -مثلاً- إن لم يصل رحمه، فإن وصل الرحم فعمره ثمانون، والملك لا يدري، ولذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، فالذي في اللوح المحفوظ لا يغير ولا يبدل، فقد قدر وكتب وجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة، ولكن صحيفة الملك هي التي يكون فيها التغيير والتبديل بنص القرآن: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩]، وأم الكتاب هو الذي فيه حقيقة العمر وأصله، وهل هو واصل أو غير واصل؟ وهذا من أعدل الأوجه، وهو أنسب الأقوال.

ولا مانع من القول الأول بأنه توضع له البركة، فحينئذ يكون وضع البركة بالنسبة لأصل اللوح المحفوظ أن يكون في عمره، وتكون النقص والزيادة على صحيفة الملك، لكن القول الأول واضح في الدلالة؛ لأنه يتفق مع ظاهر النص في قوله: (ويزاد له في عمره) فهي زيادة البركة فيما يكون له من الخير والنعمة.

أما السؤال: ما هي العلاقة بين أن يُزاد في العمر وينسأ في الأثر وبين صلة الرحم؟ أخي الكريم: لا يستطيع العقل القاصر أن يربط بين هذا الثواب الذي يضعه الله عز وجل وبين العمل، وهذا تقدير العزيز العليم، ولا يستطيع الإنسان أن يدركه، ولو أنه ظهر له بعض الحكم فلن يستطيع أن يدرك الحقيقة التي من أجلها جاء الثواب على هذا الشكل وعلى هذا الوجه.

ولذلك يوصى طالب العلم ويوصى كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُسلِّم، فالنص إذا جاء بشيء لا تبحث عن العلل، ولا تتعود أن تبحث عن المناسبات والقرائن، وما يسمونه: بعلم اللطائف، فهذه أشياء ليست من أصل العلم، أصل العلم: الرضا والتسليم والقناعة التامة الكاملة؛ لأن الإنسان إذا صار عقلانياً وقف في التعبديات موقف الشك والريبة، وهذا الذي كان علماؤنا ومشايخنا رحمهم الله يشددون فيه، فكانوا إذا جاءتهم هذه المسائل من علوم الغيبيات التي لا يبحث فيها سلموا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فما تستطيع أن تبحث في شيء قد بينه الله عز وجل وبينته نصوص السنة، فلا يسعك أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً إلا قوله سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْت} [النساء:٦٥]، وقوله: (حرجاً) نكرة، تدل على نفي أي حرج كان؛ لأنه قضاء الله، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، فسلم رحمك الله! وينبغي على العلماء والأئمة والدعاة والخطباء دائماً ألا يحاولوا ربط الناس دائماً بالحكم والأسرار، خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي أصبح المتكلم والعالم في نظر الناس هو الذي يأتي باللطائف، ويحسن تعليل الأشياء، والكلام فيها، وهذا ليس هو العلم كله، حتى إن العلماء لما جاءوا في مسألة ليلة القدر مع أن عدد كلمات سورة ليلة القدر ثلاثون الكلمة، وجاءت الكلمة السابعة والعشرون في قوله: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:٥]، ومع ذلك تجد أئمة العلم القدماء يقولون: هذا ليس من أصل العلم والفقه؛ لأنه استنباط، وربما جعل الله السورة ثلاثين كلمة امتحاناً أو ابتلاءً للعباد، لكن ما عندنا نص يجزم بأن كون (هي) الكلمة رقم سبعة وعشرون فإذاً ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وقد يضع الله هذه ابتلاءً واختباراً للعباد، فقد يقول الإنسان على الله بلا علم، فالذي يدخل في العقلانيات قد يقول على الله ما لا يعلم.

ولذلك كان العلماء يشددون في علم المناسبات من السور والآيات، فالله سبحانه وتعالى يحكم، وتأتي أحكامه على ما يمكن تعليله، وما لا يمكن تعليله، فالقاصر والمخلوق لا يستطيع أن يدرك ما لله عز وجل من الحكم، والله عز وجل أصدق قيلاً، وأكمل حكماً.

فاللهم! إنا نسألك التسليم والرضا بما قدرت وحكمت، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>