للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وسائل معينة للتخلص من داء الشح]

السؤال

أجد في نفسي داءً يكاد أن يهلكني، فلقد كنت فقيراً ثم أغناني الله من فضله بالمال، والآن أجد في نفسي شحاً وبخلاً في الإنفاق في سبيل الله، ويحزنني ما يفوتني من المال، فكيف أتخلص من هذا الداء؟

الجواب

من أعظم النقم التي يبتلي الله عز وجل بها عبده أن يقفل في وجهه أبواب الخير، ومن أعظم أبواب الخير على الإطلاق باب النفع في الدين مثل العلم، وباب النفع في الدنيا مثل الإنفاق لستر العورات وتفريج الكربات وبذل الجاه والشفاعة لمن يحتاج، فإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً فتح به أبواب الخير، وفتح له أبواب الخير، فيسر له تعليم الناس، ودلالتهم على الخير، ولم يشح بعلمه إذا كان طالب علم، وتمنى أن الناس كلهم علماء، وإذا كان خطيباً أو إماماً أو معلماً تمنى أن لو ينزع بيده العلم من قلبه لكي يضعه في غيره مع مساواته فيما هو فيه، من حبه للخير للناس، فهذا ولي الله المؤمن، الذي طهر الله قلبه وسلمه، وهو بخير المنازل عند الله؛ لأن الله أعطاه حكمة فعمل بها وعلمها للناس.

وكذلك إذا أعطاه الله المال، سلطه على هلكته بالحق، وإذا أراد الله بعبده شراً، قسا قلبه، وعزب عنه رشده، فأخذ ينظر لنفسه، وكأنه يستوجب على ربه أنه مالك للمال، وكأن المال قد أتاه بحوله وقوته، فنسي نعمة الله، وبطر بما آتاه الله، وكفر بفضل الله، فعندها لا يأمن من استدراج الله وعقوبته، ولذلك الرجل الأعمى حينما أعطاه الله أمنيته فأذهب الله عنه العمى، وأوتي المال، فأعطي وادياً من الغنم وكثر غنمه، جاءه الملك في صورته التي كان عليها، وقال له: أنا ابن سبيل منقطع، فقال له: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، والله! لا أمنعك اليوم من مالي شيئاً؛ لأنه يحس أن المال ليس بيده، وأن المال مال الله، ويحس أن النعمة جاءته من الله، فأخذ يلتمس رضا الله بأي وجه من الوجوه، فقال: دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله! لا أمنعك من مالي شيئا، ً إيمان كامل وتسليم كامل، وهذا كله لا يكون إلا بفضل الله ثم بحياة القلوب، فعلى العبد دائماً أن يفكر: كيف يعامل الله؟ الدنيا فانية زائلة لا محالة، يا هذا! إذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله أمرك وأصلح حالك، فأما ما سألت عنه من داء الشح فأقول: أولاً: أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن تكثر من الدعاء، فإنه والله! لا يمكن أن ينجيك مما ابتليت به إلا الله وحده لا شريك له، فتدعو الله في الأسحار، وتقوم في جوف الليل، وتبكي وتتضرع إلى ربك قائلاً: اللهم! أصلح لي قلبي، اللهم! إني أعوذ بك من فتنة هذا المال، اللهم! اجعله لي عوناً على طاعتك، اللهم! بارك لي في مالي، اللهم! اجعل ما رزقتنيه عوناً لي على طاعتك ومحبتك ومرضاتك، يالله! سهل لي الخير، ونحو ذلك من الدعوات التي تسأل فيها ربك ما يرضيه عنك.

ثانياً: أن تكثر من الأسباب التي تعينك على الجود والسخاء، ومن أعظمها قصر الأمل في الدنيا، وعظم الرجاء في الآخرة، يا هذا! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت، وتصدقت فأبقيت، ليس لك من هذا المال إلا ما قدمته لآخرتك وابتغيت به ما عند ربك، فاعلم علم اليقين أن هذا المال لا يمكن أن يكون نعمة حقيقية إلا إذا كان في يدك لا في قلبك، ومن الأسباب التي تعينك على إنفاق المال أن تتذكر كيف كنت، وأن تعلم علماً يقينياً لا شك فيه ولا مرية أن الله قادر في طرفة عين أن يجعلك فقيراً، فكم من إنسان أصبح غنياً فأمسى فقيراً! ولربما يكون الإنسان ثرياً وفي طرفة عين يكون فقيراً، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، ويقال: إنها حدثت مع الوليد بن عبد الملك، والمشهور أنها عن الوليد، فجاء رجل إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله، فدخل عليه وهو كفيف البصر، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أغنى قومي، وكان عندي من المال ما لا يعد ولا يحصى من إبل وغنم، وكان عندي من العبيد والموالي ما لا يحصى كثرة، وكانت لي ضيع -يعني بساتين- ففوجئت في ليلة من الليالي بمطر غزير فجاء السيل فلم يبق من ذلك شيئاً، ما أبقى له مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، اجترفهم السيل عن بكرة أبيهم، قال: فرقيت على شجرة فسلمت ونجوت بفضل الله عز وجل، وما زال يبكي عليهم حتى فقد بصره، ففقد أهله وفقد ماله وفقد بصره، وكان في أعز الغنى، فلا يأمن أحد مكر الله عز وجل، ومكر الله يحل على القوم الفاسقين، ويحل على الظالمين، ويحل على المعتدين.

وقد يكون الإنسان في نعمة ورغد من العيش ويبسط الله له النعمة، فيأتيه الرجل في ظلمة ليل أو ضياء نهار، ويقول له: إني في كربة وفي حاجة وفي ضائقة وهو صادق، والله! لو كان عنده شعوره لعلم أن هذا الرجل ابتلاء من الله قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، أي شخص يقف عليك وعندك قدرة على أن تعطيه من الدين أو الدنيا فاعلم أنه ابتلاء من الله، قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، إلا أن يكون كذاباً فهذا أمر آخر.

فعلى كل حال؛ على الإنسان أن يستجمع الأسباب التي ذكرناها، ومن أعظم الأسباب أنه لا يأمن مكر الله، فقد يؤخذ منه المال في طرفة عين، والله على كل شيء قدير، وهذا أمر لا يعجز الله في الأمم فضلاًً عن الأفراد، فكم من قرية أمست ظالمة فما أصبح لها أثر، وكم من قرية أصبحت ظالمة فأمست وهي بحالٍ بئيس {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:١٠٢] ما قال: الأفراد ولا الأشخاص ولا القرية {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:١٠٢] ما قال: الأفراد ولا قال: القرية، وإن كان ذكر لنا مثل القرية إذا جاءها بأسه بياتاًً، فإذا جاء بأس الله بياتاً أو جاء صباحاً فهذه سنة الله، أما إذا جاء للأخذ والقدرة الإلهية المتعلقة بصفاته سبحانه وتعالى فقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:١٠٢]، وهذا تعظيم لصفات الله متعلق بالتوحيد، فلما جاء عند الصفة وهي الأخذ جاء بصيغة الجمع {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:١٠٢]، جملة وهي ظالمة حالية، أي: والحال أنها ظالمة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢]، فالإنسان الذي يشح بماله عليه أن يعلم علم اليقين أن لله سطوات، وأن لله أخذات، وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي كل من أعطاه النعمة، ولذلك قيل لقارون: {أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:٧٧]، فلما عتا وطغى وتمرد على الله جل وعلا، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فهو في الأرض يتزلزل فيها إلى يوم القيامة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:٨١]، فلا أحد يستطيع أن ينصر العبد إذا أخذه الله عز وجل، فعلى الإنسان أن ينتبه، فهذا المال امتحان من الله.

ومما يعين على ترك الشح، وعدم الاغترار بالمال؛ كثرة ذكر الآخرة، فالذي يعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يأخذه بين عشية وضحاها، فإنه يزهد في الدنيا وتهون عليه الدنيا، ولذلك انظر إذا حضر الأجل إلى الشخص فإنه يتمنى لو تصدق بماله كله؛ لأنه تهون عليه الدنيا كلها، ويزول عنه غروره.

ومن الأمور التي أوصيك بها والتي تعينك على ترك الشح أن تنظر إلى الأسباب التي ولدت الشح في قلبك؛ من وجود القرناء، ومنافسة القرناء، والجلوس مع الأثرياء، وكثرة الحديث في الدنيا، فإن هذا مما يورث الشح، ومن جالس قوماً تأثر بأخلاقهم، فجالس الأخيار والصلحاء والأتقياء والفضلاء وابتغ ما عند الله سبحانه وتعالى، واسأل عن عورات المسلمين فاسترها لعل الله أن يسترك، واسأل عن كرباتهم فنفسها لعل الله أن ينفس كربتك، والتمس مرضات الله سبحانه وتعالى.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهبنا من الدنيا وزينتها عوناً على طاعته ومحبته ومرضاته.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>