للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم إلقاء الكلمات بعد خطبة الجمعة]

السؤال

يقوم بعض الناس يوم الجمعة بعد إلقاء الخطبة وأداء الصلاة بالتعليق على موضوع الخطبة أو ينبه على مسألة ما، فما حكم هذا الفعل؟

الجواب

الحقيقة أن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل في بعض الأحيان، فقد يحتاج إلى تعليق على الخطبة إذا كان أمراً لازماً كخطأ في حكم شرعي أو في مسألة اعتقادية فلابد من التنبيه عليها، أو أن خطيباً أخطأ الجادة فأحل حراماً وحرم حلالاً -وإن شاء الله الخطباء أبعد عن هذا، لكن على فرض أنه قد يوجد شيء من هذا- فلابد أن يقوم الإنسان، لأنه إذا لم يتدارك بعد الخطبة، فأين يتداركهم؟!! وهؤلاء ينبغي إعلامهم أن هذا الأمر ليس من شرع الله عز وجل، لكن ينبغي أن يكون الأمر أمراً متفقاً بين العلماء على خطئه، أما لو كان أمراً خلافياً والخطيب يرى فيه قولاً لعلماء وأئمة، فلا يأتي واحد بعد أن ينتهي يعقب عليه أو يكتب ويقول: لي عليك ملاحظة، فهذا أمر مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله، خاصة الأئمة والعلماء، فإذا خطبوا أو بينوا أمراً، أو دليلاً أو صححوا ما ضعف الغير، أو ضعفوا ما صححه الغير، وقالوا بما ترجح عندهم، فهم ومن تبعهم يتقربون إلى الله بهذا، فلا يأتي أحد يشوش عليهم؛ لأنك إذا فعلت ذلك ساغ للغير أن يأتي لشيخك ويخطئه كما خطأت أنت شيخه، ويفتح على الناس بلاء عظيم، وقد نبه العلماء على هذه المسألة في مسألة: العذر بالخلاف ومراعاة آداب الخلاف، فتكلموا عليها في كتب الأصول، وكان أئمة العلم ودواوينه يسيرون على هذا.

إذاً: التعقيب على الخطيب لا يكون إلا عند الضرورة؛ لأنه سيؤثر في نفسية الخطيب، ويؤثر في نفسية الناس، وينزع ثقة الناس به، خاصة إذا كانت المسائل مختلف فيها، وخاصةً إذا كان الذي يعقب صفيق الوجه سليط اللسان لا يتقي الله عز وجل، ولا يراعي الحرمة، ونقول هذا؛ لأنه في هذا الزمان كثرت الجرأة على أهل العلم، وهذا ليس بغريب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلي قدر الإنسان ويعظم أجره، ودواوين العلم كلهم ابتلوا بهذا، وما سلم أحد من أئمة العلم من هذا البلاء، لكن إذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة كالرد على شخص يدعو الناس إلى بدعة متفق على التبديع فيها، أو يدعوهم إلى تحليل حرام وتحريم حلال أحله الله عز وجل، أو إذا قام الناس من المسجد ولا يمكن أن تجمعهم فقمت وحمدت الله وتكلمت وبينت، أو إذا كان الخطيب عنده استعداد أن تنبه وتنصح حيث تأتي وتنبه الناس وتنصحهم، أو تنصحه بينك وبينه، والإنسان الذي عنده استعداد أن يصحح خطأه، يستر ما أمكن، وإذا جئته بالملاحظة وكانت صحيحة ومتفقاً على الخطأ الذي وقع فيها قبلها منك فهذا تنصحه فيما بينك وبينه، وهو يتولى نصح الناس؛ لأن نزع ثقة الناس فيه والكلام في العلماء والأئمة -خاصة ممن لهم قدم صدق في نصح الناس وتوجيههم- مفسدة أعظم، وخاصة عند العوام فإن ثقتهم تنزع منه وتحدث بلبلة وتشويش، فهذه أمور ينبغي أن تضبط بضوابط شرعية وعلى كل من يريد أن يقوم بهذا الأمر أن يرجع إلى أهل العلم، والأشبه والأولى في مثل هذه المسائل أن يفتي في كل مسألة بحدودها حتى يكون أضبط وأرعى للحقوق الشرعية؛ لأن هذا أمر فيه حقوق منها: أولاً: حق المتكلم؛ لأن الواجب على الناس عموماً عالمهم وجاهلهم أن يكرموا كل من يدعو إلى الله عز وجل؛ لأن الله أكرمه وشهد من فوق سبع سموات أنه لا أحسن قولاً ممن يدعو إليه سبحانه وتعالى، والخطيب داعية إلى الله، وليعلم كل مسلم أن لهؤلاء الذين تصدروا لتوجيه الناس في المساجد من الخطباء والأئمة -جزاهم الله خيراً- والدعاة المخلصين، أن لهم حقاً عظيماً على المسلمين، وأنهم على ثغر من ثغور الإسلام، وأن هؤلاء عن طريقهم يرغب في الدين، وعن طريقهم يحبب في الطاعات، وعن طريقهم بإذن الله عز وجل ينفر الناس من معصية الله وانتهاك حدوده عز وجل، فإذا أصيبت الأمة في أمثال هؤلاء فإنه مقتلٌ عظيم، فالواجب علينا أن نعلم أن كل مسلم مطالب بتهيئة الأسباب للمطالبة بهذا الحق، وتجد السلف الصالح -رحمهم الله- حفظوا لأئمتهم ولعلمائهم ودواوين العلم حقوقهم ولم يرضوا لأحد أن يثلبهم أو ينتقصهم أو يجرحهم لما في ذلك من التوهين في الدين، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الإساءة للقاضي في مجلس القضاء أو الكلام فيه أو في علمه لا يسقط فيه الحق ولو سامح القاضي.

ومن جفا القاضيَ فالتأديبُ أولى وذا لشاهدٍ مطلوبُ قالوا: لأن القاضي إذا سامح عن نفسه بقي حق الشرع، والداعية إذا تُكلم فيه وقال: سامحتك، بقي حق الدعوة؛ لأنه كم من أناس نفروا من هذا الداعية ونفروا من هذا الخطيب وقام وراءه في الخطبة وتكلم فيه أو جرحه أو تطاول في عرضه -نسأل الله السلامة والعافية- إذاً: هناك ضوابط لمن أراد أن يقوم يتكلم، ما الكلام الذي يقوله؟ وما الذي ينبغي عليه مراعاته؟ ولذلك نقول: كل مسألة ينبغي أن تحد بنازلتها وأن يفتى فيها بأمرها؛ لأن الأمر يحتاج إلى انضباط، فإذا أراد أن يتكلم، وتكلم في حق هذا العالم أو الخطيب أو الداعية أو الناصح وأساء إليه أو انتهك حرمته، فإنه في هذه الحالة لو سامح الخطيب والداعية عن نفسه بقيَ حق الشرع، فإن هذا الشخص تسمى باسم الدعوة، ولذلك لو أن حارساً يحرس عمارتك أو بيتك فجاء شخص فضربه وهو يحرس عمارتك لاعتبرت ذلك إساءة إليك كما هو إساءة إليه، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن قام على حدود الله أن تنتهك؟ ومحارم الله أن تعتدى؟ وذكر بالله ووعظ بالله، أترى ربك لا يفي بعهده ووعده؟ ولذلك قل أن تجد أحداً تصدر لأهل العلم وأهل الفضل إلا وجدت دلائل عقوبة الله عز وجل -خاصةً إذا استطال في أعراضهم- العاجلة والآجلة، ومن شاء صدق ومن شاء كذّب، فالله عز وجل بالمرصاد وهو عزيز ذو انتقام، فهذا الأمر نضيق فيه ونشدد؛ لأننا نعلم أن هذه الأمة قامت على التربية والأدب، وما استقام أمرها إلا بالأدب، وهذا عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند أبي بكر دليل وعنده دليل ويقول رضي الله عنه: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ومع ذلك يصر أبو بكر ويقول: إنها لقرينتها بكتاب الله، ولأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -هذا له دليل وهذا له دليل- ويقول عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر.

وهذا كله على الأدب، قال: فعلمت أنه الحق) وما ذكر حجة ودليل، قال: رأيت الله شرح صدر أبي بكر.

يعني: هو أعلم منه، والله عز وجل وفقه فرضي بعلمه وفضله، ولذلك كنا مع العلماء وكنا مع المشايخ نجلس في مجالسهم ونسمع من كلامهم، وفي بعض الأحيان ربما تعرضوا للمسألة بدليل واحد وفيها عشرات الأدلة، فيأتي الشيطان ويحاول أن ينتقص العالم وهذا طبيعي جداً؛ كذلك الإمام لو صلى ونسي أو أخطأ في القراءة وله قدم راسخة -فهذا لحكمة من الله عز وجل- هل إذا صلى الإمام ونسي آيةً في قصار السور وهو من حفاظ القراءات يُطعن فيه أو يُنقص من قدره؟ كلا والله، فهذه حكم من الله عز وجل أنه ربما تحصل الزلة ويحصل الشيء اليسير فيدخل الشيطان، فعلى الإنسان أن يحفظ قلبه من انتقاص أمثال هؤلاء سراً وجهراً، ونشدد في هذا؛ لأننا وجدنا الأمة قامت واستقامت أمورها على الأدب، ووالله ثم والله إننا سنلقى الله يوم نلقاه وقد ربينا الناس على حمل حرمات العلماء ولا نربيهم على جرحهم وانتهاك حرماتهم وثلبهم والتشهير بهم، فهذا أمر ينبغي أن يوضع في نصابه، يرضى من يرضى، ويسخط من يسخط؛ لأن علينا أن نرضي الله عز وجل، فالواجب على العلماء والخطباء وطلاب العلم حتى بعضهم مع بعض أن يربي بعضهم بعضاً على تعظيم حرمة المسلم فضلاً عن الداعية إلى الله، فما قامت أمور هذه الأمة إلا بحفظ هذه الحقوق ورعايتها وصيانتها، والخوف من الله سبحانه وتعالى في ذلك، نسأل من الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>