للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الجمع بين اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر وبين كون عظم الأجر مع المشقة]

السؤال

إن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فكيف يجمع بين هذا وبين كون عظم الأجر مع المشقة؟

الجواب

تخيير النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيما لم يبت فيه، والفضائل في المشقات فيما بتَّ في حكمه، وتوضيح ذلك: أنه إذا خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين أحدهما أيسر للجماعة وللأفراد كان عليه الصلاة والسلام يختار الأيسر؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، ويختار ما هو أخف على الناس حتى في بعض الأشياء التي تكون منه عليه الصلاة والسلام في شأنه وسمته يختار أيسرها، ومع أهله وزوجه يختار أيسرها؛ لأن التخفيف يكون فيه إحسان إلى الغير إذا كان الغير له تبع كما هو حاله مع أهله وأزواجه، فالمسلم إذا اختار الأيسر في معاشرته لأهله ومعاشرته لمن ولّاه الله أمره من العمال والخدم والأجراء ييسر عليهم، ولا يعنفهم، ولا يشق عليهم ويأخذهم باليسر فهذا أفضل.

مثلاً: لو أن رجلاً أراد أن يبني عمارة وهذه العمارة يمكن أن تبنى خلال خمسة أشهر ويمكن أن تبنى في خلال عشرة أشهر، ولكنه خلال الخمسة الأشهر يضيق على العمال ويضغط عليهم، فيختار النبي صلى الله عليه وسلم -كمثال- في هذا الأيسر، ويخفف على الناس ولو طال الأمد.

وكان صلوات الله وسلامه عليه يختار اليسر في سمته وشأنه كله، ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت للميسرين) أما في مجال العبادات والرقائق - مثلاً - إذا رأيت شخصاً على منكر فإنك مخير بين يسر وعسر، فالعسر أن تأتي بقوة وتقول: يا أخي! اتق الله! فهذا منكر، وما كان ينبغي لمثلك أن يفعل هذا.

فهذا لا تُلام فيه؛ لأنك قلت حقاً وصدقاً، وقلت شيئاً يستند إلى أصل شرعي، فالذي فعله منكر، بشرط أن لا تتجاوز الحد في النهي، مثل أن تقول له: أنت كذا وأنت كذا، وتتهجم عليه، وإنما تأتيه بقوة في اللفظ تقول له: يا أخي، اتق الله.

ولذلك تجد البعض إذا أنكر ينكر بقوة وبشدة، ولا يمس حق أخيه المسلم، ولا يستطيل في عرضه، ولا يسبه ولا يشتمه، فهذا الذي أخذ بالقوة يعطي هيبة للدين، وللشرع، ولا يأتي شخص يسفهه ويقول: انظر إلى هذا لا يعرف كيف يأمر وينهي.

لا.

فهو أخذ بشيء حسن، وقال صدقاً، فلا يستطيع صاحب المنكر أن يرد ما قاله، وأمر به؛ لأنه من شرع الله عز وجل وهذا طبعه وهذه طريقته، أخذ بالحسنى، وقال بالحسنى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.

لكن لو جاءه وقال له: يا أخي! اتق الله عز وجل، فمثلك ينتسب لدين الله وشرع الله ولا يليق بمثلك هذا، وأنت عندي أفضل من أن تفعل هذا الشيء، أو رأه على منكر قال: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء، أسأل الله أن ينزع من قلبك حبه، أسأل الله عز وجل أن ييسر لك التوبة منه، فشرح صدر الرجل إلى القبول، وشرح صدر الرجل إلى الأخذ بهذا الذي قاله، فهذا قد أخذ باليسر والسهالة.

الأول: أخذه بالقوة وبعزيمة الشرع: (ولتأطرنه على الحق أطراً) وجاءه على الأصل وهذا حسن.

الثاني: أخذ باليسر، وهو أحسن؛ لأنه رغبه ودعاه إلى الخير، وكلاهما من شرع الله عز وجل وكلٌ منهما في حسن؛ فالأول نظر إلى الثمرة والنتيجة فلو أن الناس أخذوا بالعزيمة بقيت هيبة الدين وقوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني رغب الناس إلى الخير، لكن ربما يعامل الفاسق والفاجر والمتهتك بذلك فيستطيل على أهل الحق ويستطيل على من يأمر وينهي، فيؤخذ باليسر في موضعه والحزم في موضعه؛ وحينئذٍ الكمال والتمام يأتي بالتي هي أحسن فإن رفع صوته عليه رفعه عليه، وإن أغلظ له أغلظ عليه ورد عليه منكره، فتعطي كل ذي حقٍ حقه.

مثلاً: في بعض الأحيان تقع في وضع لو أنك أخذت باليسر والسهالة لتهتك الناس به ولربما تأتي في موضع لا يستحق الشدة وترى فيه خطأ فتعنف بقوة، وأنت عالم أو شيخ أو داعية، وكان بالإمكان أن تأخذ بالتي هي أحسن لكن قد ترى أن ممن يحضر أناس وتعلم أنك لو أخذته باليسر سيرتكب غيره نفس الخطأ وتعلم أنك لو أخذت بالقوة في هذا أنك تعالج أمراً فيه مصلحة للغير، فحينئذٍ تكون الشدة والقوة في مكانها، واليسر في مكانه، فتأخذ باليسر في موضعه، وتأخذ بالقوة والشدة في موضعها، فإذا أخذت بالذي فيه مشقة، فربما تضجر الناس من ذلك وقالوا: ما ينبغي لهذا الداعية أن يفعل هذا، وربما يسفه رأيك، وربما يستهجن فيعظم أجر الإنسان أكثر، ولربما يحصل بالبلاء ما لا يحصله بغيره.

وفي اليسر يحصل جانباً آخر مثل: أنه يمنع الناس من الكلام في أهل العلم، ولذلك لما مشى بعض أئمة السلف، وكانت به عاهة وبجواره عالم آخر فيه عاهة ثانية، فقال: إذا رآنا الناس قالوا: كذا وكذا.

يعني: يقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، فقال له العالم الآخر: مالك وللناس فليقولوا ما قالوا، قال: وما عليك أن يسلم الناس ونسلم.

الأول يقول: أريد الأجر والثاني يقول: وما عليك أن يسلموا ونسلم، انظر كيف النظر الأبعد؛ فمثل هذا يأجره الله.

وهناك جوانب في اليسر تدرك فيها فضائل العسر، وهناك جوانب في العسر تدرك فيها فضائل اليسر، وهذا يرجع إلى الفقه، ولذلك قالوا: الفقه عن الله عز وجل يحصل الإنسان به ما لم يحصله غيره؛ لأن غيره لا يستطيع أن يزن الأمور بموازينها.

وكنا نجد بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم -نحن عندما نقول: قال بعض مشايخنا كذا، فإنا والله لا نشك أن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنيان عن كل أحد، لكن ضرب الأمثلة من الواقع والحياة التي يعيشها الناس يؤثر كثيراً- كنا نجد بعض علماءنا يتعاملون بعنف وبعض الأحيان يتعاملون بيسر، حتى أنك تتألم وتقول: كان ينبغي أن يأخذ بالقوة والحزم، ولكن تمضي الأيام تتتابع، وإذا بالذي اختاره الله له عين الصواب وعين الحق، ويجعل الله من حسن الأثر وحسن العاقبة ما لم يكن في الحسبان، وهذه كلها ترجع إلى أمر واحد وهو: توفيق الله جل وعلا.

فالإنسان عندما يمارس العسر واليسر في دعوته إلى الله لا يريد إلا وجهه، فلن يندم عليها أبداً، وسيوفقه الله عز وجل للصواب ويعينه؛ لأن أهل العلم والدعوة وطلبة العلم والخطباء وكل من تولى ولاية شرعية لحمل الناس على طاعة الله لا يوفقهم الله إلا إذا علم فيهم الخير والصدق، وانظر إلى أهل الدنيا من التجار وأهل الأموال كيف يقفون مع من يعينهم على دنياهم، وكيف أنهم يغارون -وحق لهم ذلك- لأنهم نصحوا لهم وقاموا معهم، فكيف بمن نصح لله جل وعلا ولدينه؟ أبداً لا يخيب، فعسره سيجعل الله به الخير إن اتقى الله فيه، ويسره سيجعل الله فيه خير، وسبحان الله العظيم! بعض الأحيان يختار الإنسان المشقات التي فيها الأجر أعظم، لأنه كما جاء في الحديث: (ثوابك على قدر نصبك) وقلنا: إن هذا فيما بت في أمره.

مثلاً: في التشريعات -مثلاً- المشي في الحج.

لو ركب أو مشى، فإنه إذا ركب تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو مشى تعب وحصل له الأجر بالعناء والتعب، لكن لا يعتقد أن المشي أفضل من الركوب من جهة كونه سنة، وإن اتفق له أن يمشي فليمش، وله الأجر الأعظم في المشقة، لكن إذا جاء وخير بين الركوب والمشي فيختار سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب، فإذا أخذ باليسر تأسياً أو كان الأمر فيما بت فيه فلا إشكال، والخير في اتباعه وتتبع سنته عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قالوا: الوارد أفضل من غير الوارد، فالوارد إذا اتبع فيه الشرع كان الأجر أعظم عند الله عز وجل، بل فيه الرحمة والهدى؛ لأن الله جل وعلا جعل الرحمة والهدى لمن اتبع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>