للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)]

السؤال

أشكل علينا قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:٢٢] ما معنى قوله: (إلا ما قد سلف)؟

الجواب

( إلا) استثناء موجب للعطف المشرك للحكم، وهذا معروف في لسان العرب، ولذلك يكون قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:٢٢] أي: ولا ما قد سلف، لا تستديموهن ولا تبقوهن.

أي: ما كان من الوطء بنكاح منكوحة أبيه، ومن بقيت معه بعد نزول الآية فعليه أن يفارقها، ويكون معنى قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أي: لا تستبقوهن، وقالوا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:٩٢]، أي: ولا خطأ، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة للتساهل حتى يحصل القتل.

وهذه اللغة استشهد بها الإمام ابن قدامة رحمة الله في هذه المسألة وفي مسألة بيع الكلب المعلم للصيد، في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد؛ لأن العرب كانت مشهورة بالصيد، فخاطب البيئة التي نزل فيها القرآن بما ألفت، فقوله: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فإذا كان كلب الصيد -للحاجة- لا يجوز فمن باب أولى تحريمه لغير الحاجة؛ لأنه قد يظن شخص أن الإذن به للصيد يبيح ويحل بيعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلاب وشراؤها، ولو كان مأذوناً باتخاذها، فالعطف هنا للمأذون، واستشهد الإمام ابن قدامة بقول الشاعر: وكل أخٍ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان، فهذا عطف موجب للتشريك في الحكم، وما ذكرناه ذكره بعض أئمة التفسير في الآية الكريمة.

وقيل في معناها -على وجه-: أي: عفوت فيما وقع منكم فيما قد سلف، فاستأنفوا الحكم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وكما قال الله تعالى: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنه} [المائدة:٩٥]، فيكون من باب التنبيه على أن النفوس تتحرج، حتى إن العرب في الجاهلية كانوا إذا توفي الرجل وخاف الابن على زوجة أبيه يرمي ثوباً عليها حتى لا يتزوجها غيره، ومعنى ذلك: أنه يريد أن ينكحها، فهذا من عادات الجاهلية، فيرمي ثوبه عليها، فتعلم أنه يريد نكاحها، فإذا نكحها مقتته العرب، وكانوا يمقتون هذا مع أنهم كانوا يفعلونه، إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة مستبشعة، وكما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:٢٢]، أي: أن نكاح زوجة الأب ممقوت، حتى في أعرافهم الجاهلية.

وعلى كل حال: الآية تدل على أحد أمرين: إما عطف موجب للتشريك في الحكم، كما ذكرنا، فلا إشكال، فيكون ما يستفاد منها: أنه لا تبقوا النكاح الذي كان في الجاهلية، ويجب أن تفارقوهن، فالآية الكريمة جمعت بين تحريم نكاح زوجة الأب ابتداء واستدامة؛ فابتداءً لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء:٢٢]، واستدامة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:٢٢] أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.

وأما الاحتمال الثاني: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} المراد به: استأنفوا الحكم، فما كان مما قد سلف فإن الله قد عفا عنه؛ لأن الله لم ينزل فيه شرعاً؛ ولذلك أعذر فيه سبحانه وتعالى، وأسقط المؤاخذة.

والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>