للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إنفاق الرجل على أهل زوجته]

السؤال

هل للزوجة أن تطالب بنفقة أهلها وإطعامهم إذا لم يكن هناك من يعول أهلها؟

الجواب

هي تطالبه تكرماً وتفضلاً وإحساناً منه إليهم وصلة للرحم، عل الله أن يخلف عليه ويبارك في ماله، وكم من زوج موفق كان دخوله على أهل زوجته خيراً وبركة، فتجده لا يقصر في الإحسان إلى رحمه، ولا يقصر في النفقة، ولا يقصر في الجاه، وإذا وجد منهم حاجة سدها أو خلة قام بها، ينظر هل يحتاجون إلى جاهه وشرفه، فيقوم بذلك ما يستطيع، فيكون نعم الرحم لرحمه.

وهذا من توفيق الله للعبد أن يعيش مرضياً عنه بين والديه، مرضياً عنه بين قرابته، مرضياً عنه بين عشيرته، مرضياً عنه بين رحمه، تسأل أقرب الناس عنه فلا يذكرونه إلا بخير، ويقولون: نعم الرجل، حافظٌ للرحم وصول لهم.

وما استقامت أمور الأمة إلا بهذه المكرمات والفضائل، فتجد الرجل ينظر إلى مقام المحسنين ولا ينظر إلى مقام الإجزاء فقط.

نقول: إنه ليس بواجب عليك الإنفاق عليهم، وليس من حقها أن تلزمك بهذا، ولكنها فتحت عليك باب رحمة، إن أردت أن يرحمك الله وإن أردت الخير والبركة فاحتسب، وإنه والله مما يقرح القلوب أن تجد الرجل قوي الهمة ينظر إلى الفقراء يميناً وشمالاً، ويلهث في سد حوائجهم ولا ينتبه لأقرب الناس منه، تجده يفيض الله عليه المال فإذا جاء ينظر إلى الغريب ولو كان عنده كفاية يقول: هذا مسكين، وإذا نظر إلى قريبه دقق في كل شيء، فلو وجد عند قريبه أقل المال ظن أن قريبه غني فيصرف عنه كل خير منه، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية.

ومن توفيق الله للعبد وتسديده وإلهامه الرشد أن يبدأ بأقرب الناس منه؛ ولذلك يقعد الشيطان للإنسان بالمرصاد، وانظر إلى أي مسألة فيها إحسان إلى أقربائك تجد الشيطان يدخل عليك من المداخل التي لا يعلمها إلا الله، فتارةً يقول لك: لا تعطهم، إنك إذا أعطيتهم أفسدتهم، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم تسلطوا عليك ثم غداً يأتونك وهكذا، وتارةً يقول لك: إذا أعطيتهم يذهبون ويخبرون الوالد والوالدة، والوالد والوالدة يغضبون عليك، ويصير الشيطان فقيهاً لا يريد لك غضب الوالدين!! وهو لا يريد الخير للعبد بل يريد أن يسلبه الخير، ولكن الموفق السعيد يقول: أنا أعطي وأما العواقب فعلى الله، أنا أعطي وأرجو من الله رحمته فيجد أن تلك الوساوس تزول، وبمجرد ما يعطي يجد في قرارة قلبه عاجل البركة والخير، وهذا مجرب.

فليس هناك أشياء وجدناها أكثر نفعاً وأسرع وأحسن عاقبة من صلة الرحم، وهي من أسرع الأشياء بركة على الإنسان، سواء من الإخوان أو الأخوات أو أولاد الأسرة من أولاد الأخوات والأعمام والعمات، كأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة، فالمسارعة إليهم وقضاء حوائجهم، تجد دونه من الفتن والمحن ما الله به عليم، ولكن ما أن تضع قدمك على أول الطريق إلا نفحتك من رحمات الله ما لم يخطر لك على بال؛ لأنه قال: (فمن وصلها وصلته)، فتحصل بركة العمر، وبركة الرزق، فينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجرب.

فمن نعم الله عز وجل على العبد، أن يحرص على أهل الزوجة، فإذا جاءت الزوجة واشتكت أن أقربائها أصابهم شيء، وتأثرت، فيقول لها: أبشري وأرجو من الله أن يجملني معك، حقك وحق أهلك عليّ عظيم، والشيطان يقول: لا تقل هذا الكلام؛ لأنك إذا قلت هذا الكلام تحدث مشكلة، ربما تذهب وتقول للوالدين، وإذا قلت هذا الكلام سوف تخربهم عليك، وغداً سيأتونك ويفتحون لك باب عطاء وكذا.

وقد كان مسطح يتكلم في عائشة يتهمها بالزنا، وهو قائم بعد الله على أبي بكر في صدقاته ونفقاته.

ومنذُ أن تكلم أقسم أبو بكر أن لا يعطيه، فينزل القرآن من فوق سبع سماوات في رجلٍ افترى الفرية وقذف عائشة، وليس هناك أعظم بعد الدين من العرض، وهذا الأمر ليس بالسهل في ثاني رجلٍ في هذه الأمة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:٢٢]، نهاهم أن يحلفوا امتناعاً عن الفضل والإحسان للقريب من فوق سبع سماوات، مع أنهم آذوه أذية عظيمة، وقطع الرحم الذي بينه وبين أبي بكر بقذفه لابنته وفراش النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن ناحية دينية: كونها فراشاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية الرحم والقرابة: كونها بنت ابن خالته وقريبه، ومع هذه الإساءة كلها أمر القرآن بالإحسان إليه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢]، كأنه باب مغفرة، فلا تفوت على نفسك يا أبا بكر.

فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها ورجع إلى الخير الذي كان، إن لم يكن قد زاده عما كان فيه من خيره، فالواجب على الإنسان أن لا يفوت مثل هذا، ومن المكرمات لأناس أن الله عز وجل فتح عليهم فجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من جعله الله عز وجل يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله يقول: (ومن الناس)، أي: وليس كل الناس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧].

فيجرب الإنسان حينما تأتيه زوجته في ضائقة لأبيها أو أمها، فإذا بلغته الضائقة قامت له الدنيا وقعدت كأنه أبوه وكأنها أمه، وقال لها: أبشري بكل خير، وأرجو من الله أن يجملني معك، ثم قام وسد الخلة حتى ولو يتحمل، وكم في قصص السلف من المواقف الجليلة والحوادث الغريبة في الإحسان للرحم، وما عادت لصاحبها إلا بكل خير في دينه ودنياه وآخرته، بل منهم من تأتيه الإساءة من الرحم فيقابلها بالإحسان ويقف موقف الذليل، وهذا كله إحسان لأخته أو رحمه.

أحد الأخيار كان له زوج لأخته، فضرب أخته ذات يوم وطردها من البيت، وكان هو المخطئ -وهذا يحدثني به الرجل- وكان الرجل الذي هو أخٌ لهذه الزوجة حافظاً للقرآن من أهل الفضل في المدينة رحمةُ الله عليه، وكان من أصدقاء الوالد ومن الناس الذين قل وجودهم في هذا الزمان، وكان من أكرم الناس وأسمحهم نفساً فيما علمت منه، أحسبه ولا أزكيه على الله في بره للناس، حتى أنه كان يفطر في رمضان ولا يخرج من المسجد حتى يملأ سيارته من الفقراء والضعفاء، ولا يمكن أن يفطر في رمضان أو يتغدى أو يتعشى في أيام عادية إلا بضيف، وهذا مما عرف عنه واشتهر.

هذا الرجل يحدثني صهره بعد موته -الذي هو الزوج- يقول: أهنتها وضربتها وأخرجتها من البيت -وكان رجلاً عصبياً- يقول: ففوجئت وأنا جالس في محلي بعد صلاة الظهر في عز الظهيرة، إذا به قد هجم عليّ، وأنا أحترمه كثيراً، لكن طاش عقلي من شدة الغضب، قال: فدخل عليّ وقبل خشمي على عادته وعادة الجماعة -يقولون: هذه كبيرة عندنا- يقول: أنا المخطئ وأنا المسيء، فإذا به يقبل خشمي، ويقول لي: أسألك أن تعفو عن فلانة، يقول: والله ما تمالكت نفسي بالبكاء، شيء لا يمكن أن يتخيل! الرجل ينزل نفسه هذه المنزلة، وهذا الرجل له مكانة، ومن أعيان المدينة الذين لهم قوة ولهم مكانة كبيرة، ومع ذلك يأتي صهره هذا الذي هو بائع في دكان ضعيف الحال، لكنه كان بعيداً عنه: فإذا به يأتي في عز الظهيرة وليس بمجرد ما جاءت أخته تشتكي جاء يقول له: ماذا فعلت بها؟ أو أرسل له رجلاً من أجل أن يتفاهم معه، أو اتصل به، بل جاء يغبر قدميه إكراماً لأخته، وإكراماً لوالديه؛ لأن الوالد إذا مات، فمن بر الوالدين أن تحفظ وترعى الأخت، وترعى فلذة كبده، ترعاها في شئونها وحالها، وتعلم أن هذا يصلح حالها ويصلح به، يقول: والله منذُ تلك الحادثة لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجهه، ويقول: إذا حضرت معه في مناسبة خجلت خجلاً عظيماً، قتلني بسر الحياء.

قال: ما أظن أن يبدر هذا ذكاء منه أبداً، لكني أعرف أن هذا جاء من طيبته ومن سلامة صدره ومن حرصه على الرحم، فليس هو بمتكلف، فقتلني بهذا الموقف.

فأصبحت تستأسد علي في بعض الأحيان حتى لو كانت مخطئة يقول: في القديم ربما كنت أضربها، وضربتها أكثر من مرة وآذيتها، يقول: لكن تلك المرة لما كانت الأمور شديدة ضربتها بقوة فاشتكت، يقول: فمن بعدها ما رفعت يدي عليها، وأصبحت في هذا الموقف، ولا شك أن الإنسان الموفق موفق، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الخير وأن ييسره لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>