للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إذا كان القريب الحاجب معسراً والمحجوب موسراً لم تجب النفقة على أحدهما

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن له ابن فقير وأخ موسر؛ فلا نفقة له عليهما].

تقدم أن الوارث يقوم بالنفقة على قريبه، وأن الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أقوى القولين عند أهل العلم رحمهم الله: أن النفقة تكون مقدرة على حسب الإرث، وأن هذا متفق مع أصول الشريعة؛ لأن الغنم بالغرم، فكما أنه ينال من مورثه قدر تلك الحصة فينبغي أن يتحمل من نفقته قدرها، والوارث له حالتان: الحالة الأولى: أن يرث فرضاً أو تعصيباً.

والحالة الثانية: أن يكون محجوباً.

وبناءً على ذلك شرع المصنف رحمه الله في تفصيل الحكم بكون الوارث ينفق على قريبه على حسب الميراث؛ إذ يتفرع على هذا الحكم أنه لو اجتمع شخصان أحدهما يحجب الآخر، فهل تجب النفقة عليهما بناءً على أنهما من الورثة من حيث الوصف العام، أم أننا نطبق قواعد الإرث ونقول: يحجب الأقرب الأبعد، فتجب النفقة على الأقرب ولا تجب على الأبعد؟ والثاني هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، واستثنينا من هذا عمودي النسب، وبيّنا وجه الاستثناء وذلك في مسألة الجدة.

وبيّن رحمه الله مثالاً على القريب الذي يحجب قريبه، فقال: [فإن كان له ابن فقير وأخ موسر] فاجتمع اثنان من الورثة أحدهما الابن والثاني الأخ، وكلٌ من الابن والأخ ميراثه بالتعصيب.

لأن الإرث ينقسم إلى فرض وتعصيب، فأصحاب الفروض فروضهم مقدرة في كتاب الله عز وجل، وهي الستة الفروض المنصوص عليها: النصف، ونصفه وهو الربع، ونصف نصفه وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما وهو الثلث، ونصف نصفهما وهو السدس، فمن كان يرث فرضاً وله النصف يتحمل نصف النفقة، فلو كان هناك فقير وله وارث وجبت النفقة على هذا الوارث، وإذا كان يرث النصف فإنه يجب عليه أن ينفق عليه نصف نفقته، ولو كان له وارث يرث الربع فكذلك، ولو كان له وارث يرث الثلثين أو الثلث أو السدس فكذلك، وقد تقدم ذلك في مسألة الجدة.

واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواهما البته نصف، وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذا بالنسبة للفروض المقدرة، نجعل وجوب النفقة فيها على حسب قدر الإرث.

وإذا كان تعصيباً يأخذ الباقي، إن كان معه ذو فرض حكمنا بوجوب النفقة عليه على قدر حصة ذي الفرض، ثم الباقي وهو الواجب بعد الفرض يكون للعصبة.

فالأخ والابن من العصبة، والابن لو انفرد أخذ المال كله، والأخ لو انفرد أخذ المال كاملاً كما هو معلوم، فلو اجتمع ابن وأخ، وكان الابن فقيراً والأخ موسراً، ف

السؤال

أن الأخ لا يرث مع وجود الابن، والأصل في النفقة أنها واجبة على الابن؛ لأن الابن يحجب الأخ.

فالذين يرثون بالتعصيب العصبة من جهة الأصول وفروع الأصول، وأيضاً تكون من جهة الفروع، والعاصب يكون الأب وأباه وإن علا، والأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب، والعم الشقيق والعم لأب، وابن العم الشقيق وابن العم لأب، فهؤلاء هم عصبة الإنسان القرابة الذين لو انفرد أحدهم أخذ المال كله، فلو مات ولم يترك إلا ابن عم شقيق فإنه يأخذ المال كله، فلو افتقر وليس له إلا ابن عم شقيق أوجبنا عليه جميع النفقة؛ لأنه عاصب لو انفرد أخذ المال كله.

حتى لو اجتمع العصبة مع الغير مثل الابن مع البنت، فلو أن والداً افتقر وعنده ابن وبنت، فمذهب الحنابلة رحمهم الله أنه لو افتقر الأب وعنده بنت وابن ويحتاج إلى ثلاثين ريالاً، أوجبنا على الابن العشرين وعلى البنت العشرة، على قدر حصصهم من الإرث.

وهناك مذهب يقول: إنه لا تجب على البنت النفقة، وإذا اجتمع الذكر والأنثى غُلب جانب الذكر، وهذا لحكمة من الله عز وجل، أن جعل الكسب والنفقة في الأصل واجباً على الذكور، وهذا هو أحد الأوجه عند الشافعي رحمه الله، لكن الصحيح أن الله تعالى قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:٢٣٣] فأوجب نفقة الرضيع على الوارث، وجعل صفة الميراث مؤثرة في الإيجاب فقال: (وَعَلَى الْوَارِثِ)، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نجعل نصيب الوارث في النفقة على قدر نصيبه من الإرث.

في مسألتنا هنا مثل المصنف رحمه الله بمثال، وهو: أن يجتمع اثنان من الورثة كلٌ منهما لو انفرد لوجبت عليه النفقة كاملة وهما الابن والأخ، وكلٌ منهما لو انفرد لأخذ المال كله، فلو مات وليس له إلا ابن ذكر فإن الابن يأخذ المال كله تعصيباً، ولو مات وليس له إلا أخ فإنه يأخذ المال كله تعصيباً، هنا يرد السؤال: إذا كان الابن -وهو الأقرب- معسراً وليس عنده قدرة على النفقة، والأخ -وهو الأبعد- موسراً وعنده قدرة على النفقة، فعلى من تكون نفقة الرجل؟ إذا طبقت أصول الميراث فإن الابن يمنع الأخ من الميراث الذي يسمى في مصطلح الفرائض بالحجب، والحجب حجب نقصان وحجب حرمان، فحجب النقصان مثل الابن يحجب الزوجة حجب نقصان فيجعلها بدل أن تأخذ الربع تأخذ الثمن، لكن لا يحجبها بالكلية، وحجب الحرمان يمنع الوارث غيره بالكلية فلا يرث، والحجب بين الابن والأخ من حجب الحرمان؛ لأن العصبة تقدم بالجهة ثم القرب ثم القوة.

فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فالعصبة يقدمون على هذا الترتيب، فالابن لو اجتمع مع الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب حجبهم حجب حرمان، وهنا النفقة واجبة في الأصل على الابن، ووجوده يمنع إرث الأخ فيسقط النفقة عن الأخ، فبعض العلماء يقول: ما دام أنه فقير ينتقل الحكم إلى الأخ؛ لأنه موسر، ويكون وجود الابن وعدمه على حد سواء.

وفي الأصول الشرعية أنك إذا اعتبرت أصول الميراث فإنه يسقط وجوب النفقة عن الأخ لوجود الابن، ويسقط وجوب النفقة على الابن لكونه معسراً، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] وقد ذكرنا أننا لا نحكم بوجوب النفقة على القريب إلا إذا كان قادراً، والابن غير قادر فتسقط النفقة عنه وعن الأخ.

وفي هذا الحال إذا سقطت عن الوارث فإنها تنتقل إلى بيت مال المسلمين على تفصيل آخر، لكن من حيث الأصل فإن المصنف قصد من هذا المثال أن يبين أنه إذا اجتمع الوارثان وأحدهما يحجب الآخر، وكان الحاجب لم يتوفر فيه شرط وجوب النفقة سقطت النفقة عنهما: سقطت عن القريب الأقرب لكونه معسراً ولعدم تحقق الشرط فيه، وسقطت عن الأبعد لوجود الأقرب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>