للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم التضييق على الأهل للنفقة على المحتاجين]

السؤال

من ضيق على أهله في النفقة لأجل ما يتعاهده من الصدقات وبذل الخير للمحتاجين، فهل يأثم في هذا التصرف، أثابكم الله؟

الجواب

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فمن ضيق على من تجب عليه نفقته ينقسم إلى قسمين: إما أن يضيق في الحق الواجب، وإما أن يضيق في الكمالات، فإن ضيق في الحق الواجب فهو آثم شرعاً، ولا يجوز للمسلم أن يمنع أولاده وزوجته من حقوقهم في النفقة بناءً على الصدقات والتبرعات للغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الصحابي فقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك) فهذا يدل على أن نفقة القريب أحق وأولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أدناك أدناك) فيبدأ بالأقربين، وهم أولى وأحق، والنفقة عليهم واجبة، والنفقة على الغير إحسان وغير واجبة، فيقدم الواجب على غير الواجب.

أما إذا كان التقصير في الكمالات، بمعنى: أنه رأى الغير محتاجاً فصرف الكمالات لأولئك المحتاجين، فهل الأفضل أن يصرف الكمال للقريب ويدخل السرور على قريبه وأولاده، أم الأفضل أن ينفق على البعيد؟ هذه مسألة الذي يظهر فيها: أن الغريب إذا كانت النفقة عليه نفقة إنقاذ؛ بحيث إنه محتاج حاجة شديدة، فإن النفقة عليه أفضل من نفقة الكمال على القريب، والسبب في هذا: أنه ربما يكون الغريب محتاجاً حاجة قد يتعرض معها للحرام، فالمرأة قد تزني -والعياذ بالله- إذا افتقرت، والأولاد قد يضيعون، وربما هلكوا وماتوا من الجوع، فإذا كانت النفقة من هذا الجنس فهي الأفضل إن شاء الله؛ لأن جنسها في إنقاذ النفس واستبقاء الأرواح والمحافظة على العرض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص.

وعلى كل إنسان ينفق على الغريب أن تكون له نية، فإذا حسنت نية العبد أجره الله وجعل أجره على نيته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يتصدق على الغني وهو لا يعلم بغناه، فجعل الله صدقته بحسن نيته عبرة للغني، فأثابه الله عز وجل عليها.

فإذا كان قد أنفق على الغرباء والأجانب ممن ليسوا بأقارب له، وهو ينوي إنقاذ أنفسهم وحفظهم من الحرام أو تحبيبهم في الخير، كان بالوسيلة والنية أفضل وأعظم أجراً، لكن لو كانت النفقة على هذا الغريب من جنس الكمالات، وأولاده يريدون الكمالات فالنفقة على الأولاد وإدخال السرور على الأقرباء في الكمالات أفضل من إدخال السرور على غير الأقارب، بل حتى إدخال السرور على ابن العم القريب في الكمالات أفضل من إدخال السرور على الغريب، فمثلاً: لو احتاج إلى سيارة وعنده سيارة أو متاع أو ثياب زائدة يمكن أن يعطيها لقريبه ويمكن أن يعطيها لغير القريب.

فالقريب سواء كان من الأقربين كأولاده، أو كان من الأبعدين كابن العم، فإن إعطاء الثوب له ولو كان من الكمالات أفضل من إعطائه للغريب ولو كان صديقاً، ولو كان خليلاً للإنسان ومحباً، فإن الإحسان إلى القرابة فيه أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة.

والإحسان إلى الغريب مهما كان ففيه أجر واحد وهو أجر الصدقة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها وأرضاها في الحديث الصحيح.

وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يزن الأمور بميزانها، ولا شك أن تفقد الأقرباء والإحسان إليهم وتصديق معنى القرابة أمر مهم، فالإنسان دائماً يتفقد القرابة، وأول ما تفكر في بذل المعروف والإحسان يجب أن تنظر إلى من حولك من الأقرباء، حتى في أمور الدين والدعوة، مع أنها لا محاباة فيها ولا مجاملة، قال الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] أي: مر القريبين الأقربين.

وهذا يدل على أنهم أولى الناس بخيرك وبمعروفك وبإحسانك؛ حتى الابتسامة التي تبتسمها والسرور الذي تدخله على المسلمين تقدم فيه الأقربين الأقرب فالأقرب، فإذا وجدت القريب حرصت على أن تكون على مراتب الكمالات التي تفعلها مع الغرباء، وأن تكون في أحسن وأجمل وأفضل.

وانظر رحمك الله إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو صديق الأمة يحسن إلى مسطح وهو ابن خالته وقريبه، ثم إذا به يفاجأ بـ مسطح وهو أحد الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فمع أنه أحسن إليه، ومع وجود القرابة تأتي هذه الإساءة العظيمة في طعنه في زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل القرآن يعاتب أبا بكر رضي الله عنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢] حتى إن أبا بكر رضي الله عنه بكى وقال: (بلى! والله نحب أن تغفر لنا).

قريب يطعن في ابنته مع أنها أم المؤمنين رضي الله عنها، فاجتمعت جميع الحقوق من الناحية الدينية ومن الناحية الطبيعية الفطرية، ومع هذا كله ينزل القرآن بالإحسان إليه ورد المعروف كما كان، فأحسن أبو بكر رضي الله عنه ورد المعروف إلى مسطح، فهذا يدل دلالة واضحة على عظيم أمر الرحم والقرابة.

نحن ننبه على هذه الأمور لأنها عظمت، وسببها التفكك الأسري الذي يعيشه الناس، كثير من المشاكل والأضرار والمصائب سببها هذا التفكك الأسري، كان الناس في القديم في فقر وضعف وحاجة ماسة، ولكن رزقهم الله عز وجل من التواصل والتحاب والتعاطف وحفظ حق القرابة ما هون عليهم مصائب الدنيا كلها، والله إن الناس كانوا يعيشون بحالة لا يعلم شدة ما هم فيه إلا الله جل جلاله، ولكن ما لطف الله عز وجل بهم بشيء بعد الإيمان به وتوحيده مثل بر الوالدين وصلة الرحم.

وانظر إلى كبار السن والرعيل الأول، تجد الواحد منهم عطوفاً شفوقاً على قرابته، ما إن يسمع أن قريباً له نزلت به نازلة إلا وجدته لا يهنأ له عيش ولا يرتاح له بال؛ ويسافر إلى المسافات البعيدة، فهذا التواصل والتعاطف والتراحم والتكاتف الذي كان بين الناس هو الذي رحم الله به أمرهم، فجعل ضيق عيشهم سعة، والهموم والغموم عليهم يسيرة، وكم من مصائب تنزل بالإنسان يدفعها الله بفضله ثم بصلة الرحم.

لا يحسب الإنسان أن تفقد القرابة أمر هين، كثير من مشاكل اليوم سببها عدم الصلة، وتجد الرجل يقول لك: أنا في ضيق واكتئاب.

وقد يكون قاطعاً لرحمه من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون هذا البلاء الذي نزل به إما بسبب أذية أو قطيعة لرحم، أو عدم زيارته لأعمامه وأخواله، هذا التفكك الذي يعيشه الناس أكثره بسبب عدم القيام بحقوق القرابة.

ونحن نركز على هذه المسائل ونطيل في الجواب عليها لأهميتها؛ لأن كثيراً من مشاكل اليوم سببها ذلك، الآن لما تجد القريب تنزل به ضائقة دين، لا يستطيع أن يجد في قرابته من يساعده، فيذهب إليه ويريق ماء وجهه عنده، ويقول له: يا فلان أريدك أن تساعدني، فيجد أول من يقفل الباب في وجهه قريبه -والعياذ بالله- ويجده أول من يتهكم به ويستهزئ به ولا يصدقه فيما يقول له، مع أنهم في القديم ربما كان فيهم جهل لو قتل القريب جاءه ونصره مع أنه يعلم أنه ظالم؛ من شدة الحمية والعاطفة، صحيح أن هذا خطأ، لكن كانوا معهم في الخير والشر، وينصره ظالماً ومظلوماً، ويقف معه ويقدم له ما يستطيع من المال، هذا الذي رحم الله به الأمة.

لا تحسب أن القليل للقرابة هين عند الله عز وجل، وقد يرفع القريب كفه إلى الله عز وجل فيدعو لك دعوة تنال بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً؛ لأنه يدعو من قلبه، ويتمنى لك الخير من صميم فؤاده، ويرى أنك قد أحسنت إليه ووصلته.

والله إن كثيراً من النفوس تتبدد أحزانها وأشجانها بالكلمة من القريب القريب تجده مريضاً مهموماً محزوناً، ما إن يلتفت ويجد قرابته حوله إلا تبددت أحزانه وذهبت أشجانه، ولا عليه بعد ذلك يذهب عنه الهم أو لا يذهب، تجده مديوناً معسراً ما إن يأتيه القريب ويجلس معه ويقول: أتمنى لو كان عندي مال أعطيكه، فما إن يقول له هذه الكلمة إلا وكأنه قضى له دينه.

ما كان أحد يترك قريبه، بل يقف معه ويبذل له كل ما يستطيع، بل إن دعوة الإسلام كلها قائمة على التوحيد وعلى أداء الحقوق، فإذا أُدي حق الله عز وجل بتوحيده وإخلاصه أُديت حقوق العباد، وأول حق ركزت عليه نصوص الكتاب والسنة وتضافرت عليه واعتنت به أيما عناية بر الوالدين وصلة الرحم، حتى إن أبا سفيان لما سأله هرقل قال: بماذا يأمركم، قال له: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمرنا بالبر وصلة الرحم.

وأذكر حادثة غريبة وقعت قبل أشهر: كنت في السفر فوجدت رجلاً كبير السن، فاقتربت منه وسألني عن مكاني، وسألته من أين أنت، قال: أنا من بدر، رجل في آخر سنه فوق السبعين تقريباً، ويبيع تمراً، ولا يملك إلا القليل، وجالس في شدة الشمس يتعرض للمشقة، قلت: ما دمت أنت من بدر كيف جئت إلى هنا -كان قريباً من جدة- قال: هذا التمر الذي تراه أريد أن أبيعه وأذهب لأختي بمكة لديها أيتام وأريد أن أعطيها هذا المال، والله حينما نظرت إليه تأثرت من حاله وهيئته، ليست بحال الإنسان الذي يستطيع أن يقوم على نفسه، فضلاً عن أن يبحث عن أخته التي يريد أن يصلها، هكذا كان الناس، وهكذا يكون العيش تواصل تراحم تعاطف.

وحدثني أحد كبار السن في المدينة، وهو من أصدق الناس وخيارهم رحمة الله عليه، يقول: عشت يتيماً فكان خالي يأتينا من أكثر من أربعمائة كيلو متر من المدينة، وكان يأتي بالهدايا، فقير معدم ما عنده شيء، لكن يأتي الأربعمائة كيلو هذه، لا يمر شهر حتى يزور أخته، ويدخل على أيتامها ويلاطفهم ويحسن إليهم ويقول لأخته: أسألكِ بالله لا تسقيني شيئاً من مال اليتامى، يعني: إذا جاء في ضيافتها لا يستطيع أن يشرب عندها فنجان القهوة، وهذا شيء كبير معروف بالعادات، وإنه لصعب جداً أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>